الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢

الخطــــــــيئة

20-10-2006
تعود قصتي أو مأساتي إلي أكثر من‏33‏ عاما مضت‏,‏ واعتقدت أن الله قد غفر لي خطيئتي‏,‏ ولكن كانت الأقدار تخفي شيئا آخر‏ كنت في بداية السبعينيات‏,‏ طالبة جامعية من أسرة متوسطة في صعيد مصر‏,‏ وكنت في هذا الوقت مخطوبة لشاب من أقاربي‏,‏ أنهي تعليمه الجامعي قبلي بسنوات‏,‏ وكان يقضي الخدمة العسكرية واتفقت العائلتان علي إتمام الزفاف فور انتهائه من فترة تجنيده‏.‏

كنت أحبه حبا كبيرا‏,‏ وأثق فيه إلي أبعد الحدود‏,‏ فهو الرجل الأول في حياتي‏,‏ هو أملي ومستقبلي‏,‏ لم يكن خطيبي فقط‏,‏ ولكن كان أستاذي ومعلمي‏.‏ ما إن يأتي في اجازته‏,‏ حتي يطل علينا في بيت العائلة‏,‏ يحكي لي كل شيء‏,‏ وأحكي له تفاصيل أيامي بدونه‏,‏ وحتي لا أطيل عليك وأسرد تفاصيل لن تجدي الآن‏,‏ سأصل مباشرة إلي قلب الأزمة‏.‏

ذات مساء‏,‏ وفي ليلة أخيرة في إجازته في شهر سبتمبر عام‏1973,‏ حدث بيننا مايحدث بين الأزواج‏,‏ لا تسألني كيف‏,‏ وأين كانت العائلة‏,‏ إنه الشيطان الذي استغل ضعفنا الإنساني‏..‏ بكينا طويلا‏,‏ وأقسم لي أنه سيتم الزواج في إجازته المقبلة‏,‏ ولكنه لم يف بوعده‏ لم يف‏,‏ ليس إنكارا أو خسة‏,‏ ولكن لأن الله اختاره‏,‏ ليكون أحد شهدائنا في حرب أكتوبر‏ ضاقت بي الدنيا‏,‏ وكدت أفقد عقلي‏,‏ خاصة بعد اكتشافي أني حامل منه‏,‏ من ليلة واحدة‏,‏ ضعفت وخنت نفسي قبل أن أخون ربي‏.‏

لن استطيع أن أصف لك إحساس فتاة وحيدة‏,‏ فقدت حبيبها وخطيبها‏,‏ لا ينازع إحساسها بالفقد إلا الاحساس بالخوف من الفضيحة‏,‏ تمنيت الموت ودعوت الله كثيرا حتي لا أفضحه أو أسيء إليه أو إلي أهلي‏.‏ حاولت التخلص من حملي‏,‏ ولكن وقتها كان هذا صعبا‏,‏ وأصبحت الأيام تمر علي كالسكين البارد عندما تمر علي رقبة الذبيحة‏.‏

لم يكن أمامي إلا خيار واحد وأخير‏,‏ وإلا سيكون الهرب من بلدتنا هو الحل‏,‏ لجأت إلي صديق خطيبي‏,‏ الذي أعرف أنه كان مكمن أسراره‏,‏ وكان معه علي الجبهة‏,‏ وبعد أول زيارة له بعد توقف الحرب بشهرين‏,‏ أوفدت له من يستدعيه لزيارتنا‏,‏ وحكيت له المأساة التي أعيشها‏.‏ ففوجئت به نبيلا‏,‏ شهما‏,‏ مخلصا‏,‏ يعرض علي الزواج فورا‏..‏ وكأن السماء تلقي لي بطوق نجاة قبل أن ألفظ النفس الأخير‏.‏

في الصباح تقدم إلي أسرتي طالبا يدي‏,‏ وعندما عرضوا علي الأمر‏,‏ أخبرتهم بموافقتي الفورية لأنه صديق خطيبي الراحل‏,‏ وأثق في حسن خلقه‏.‏

تزوجنا في هدوء‏,‏ واستأجرنا شقة في مدينة بعيدة حتي أنجبت بعد ستة أشهر من الزواج لن أحكي لك‏,‏ كم وكيف كان هذا الرجل كريما معي ومع طفلي الذي نسبه إليه‏,‏ دون أن يشعر بأي تفضل‏,‏ لم يهني بكلمة أو بإشارة أو بإيماءة‏,‏ بل كان يبالغ في تدليله‏.‏ الغريب أنه كان يرفض أن ينام معي في غرفة واحدة‏,‏ ولم ألمح في عينيه نظرة رغبة أو اشتهاء حتي بعد انجابي بشهور‏.‏

وشاءت الأقدار أن يأتيه عقد عمل في إحدي الدول الخليجية‏,‏ فسافرنا واعتبرتها فرصة لبداية حياة جديدة‏,‏ وحاولت التقرب إليه‏,‏ والتفاني في خدمته‏,‏ ولكنه ظل علي موقفه مني‏,‏ إلي أن واجهته بالسؤال عن سر ابتعاده‏,‏ فرد علي‏,‏ بأنه لا يريد أن يستغل الموقف‏,‏ خاصة أنه يعرف أني قبلته زوجا في ظرف خاص‏,‏ ولكني قلت له إني أحببته‏,‏ وأحببت انسانيته وشهامته‏,‏ وأنه أمام ربي وأمام الناس‏,‏ وفي وجداني‏,‏ زوجي ووالد ابني الوحيد‏.‏

وذاب الثلج بيننا‏..‏ وبدأنا نعيش حياة طبيعية‏,‏ ولم يقدر الله لنا الانجاب فأصبح ابني هو قرة عينه وفرحة قلبه‏ سيدي‏..‏ لو سردت لك سنوات السعادة والهناء‏,‏ لما كفتني صفحات وصفحات‏,‏ حتي أيقنت أن ربي غفر لي خطيئتي‏,‏ خاصة أني حججت إلي بيته الحرام‏,‏ وبكيت دما طلبا لعفوه ومغفرته‏,‏ ولكن يبدو أنه سبحانه وتعالي لم يستجب‏.‏

حصل ابني علي الثانوية العامة بمجموع مرتفع‏,‏ ورفض زوجي أن نتركه يعود إلي القاهرة بمفرده لإكمال تعليمه الجامعي‏,‏ وقال إنه سيدخل كلية قمة ويحتاج إلي دعم ورعاية‏,‏ فأنهي أعماله في تلك الدولة التي قضينا بها أحلي سنوات عمرنا وعدنا‏ أحس بصعوبة وأنا اختصر سنوات طويلة في سطور قليلة‏,‏ ولكن ليس أمامي إلا القفز فوق الأحداث‏,‏ تخرج ابني من الجامعة‏,‏ واشتري له والده ـ زوجي ـ شقة فاخرة‏,‏ كما أثث له مكتبا فخيما يبدأ به حياته العملية‏.‏

نجح ابني في عمله‏,‏ واقترح عليه زوجي أن يكمل نصف دينه‏,‏ فرحب ابني‏,‏ وأخبرنا أنه تعرف علي فتاة من أسرة طيبة‏,‏ ووالدها يشغل مركزا مرموقا‏,‏ فرحبنا علي الفور‏,‏ وحددنا موعدا لزيارة أسرتها‏,‏ وتم كل شيء بسرعة شديدة‏,‏ خطبة‏,‏ فزواج‏,‏ بعد عام طفل جميل‏ بدأ ابني ينشغل عنا بحياته‏,‏ تمر أيام دون أن نراه أو يتصل بنا‏,‏ كنت أتصل بزوجته وأعاتبها‏,‏ فتقسم لي أنها لا تراه إلا نادرا‏,‏ وأن حياته مرتبكة دون أن تعرف الأسباب‏,‏ وأنه أصبح عصبيا يغضب لأتفه الأسباب‏,‏ زوجته لم تعرف ولكني عرفت‏.‏

في يوم فوجئت بسكرتيرة ابني تتصل بي لتطلب مقابلتي‏,‏ انقبض قلبي خوفا علي ابني‏,‏ فرحبت بها علي الفور‏,‏ وكانت المفاجأة‏.‏ ابني متزوج بها عرفيا‏,‏ وعندما حملت منه خيرها بين الاجهاض وبين الانفصال‏,‏ وعندما رفضت العرض الأول فوجئت به يمزق صورتي الزواج العرفي أمام عينيها‏,‏ وقال لها‏:‏ اخبطي رأسك في أكبر حائط‏.‏ مادت الأرض بي‏,‏ وطلبت منها أن تمهلني بعض الوقت‏,‏ وعرضت الأمر علي زوجي‏,‏ فقال لي ربما تكون كاذبة ومدعية‏,‏ دعينا نتأكد بأنفسنا‏,‏ وكانت قد حددت لي الشقة التي كان يستأجرها ويلتقيان فيها ويعرفهما الجيران‏..‏ فتوجهنا إليها وبدأنا في السؤال والتحري حتي تأكدنا من صدق كلامها‏.‏

اتصلت بابني وطلبت حضوره لأمر مهم‏,‏ وواجهته أنا وزوجي‏,‏ فأنكر في البداية‏,‏ وادعي أنها كاذبة‏,‏ وعندما أيقن أننا لا نصدقه وأننا نعرف ماحدث‏,‏ قال فلتذهب للحجيم‏,‏ لقد اتفقت معها علي عدم الحمل‏,‏ فلتشربه‏,‏ كلمة قاسية‏,‏ جرحتني‏,‏ وأعادتني إلي ألمي وجرحي القديم‏,‏ إنها في نفس موقفي السابق‏,‏ بل هي أفضل مني‏,‏ لقد تزوجته‏,‏ حتي لو كان أسلوب الزواج خاطئا أو عليه تحفظات‏,‏ ما ذنبها وما ذنب جنينها؟‏..‏ لا أعرف كيف سار الحوار بيننا‏,‏ كل ما أذكره أني انفجرت في جهه وصارحته بحقيقته وبأن هذا الرجل الذي يعتقد أنه والده هو الذي أنقذه وأنقذني‏,‏ فكيف يضع ابنه في موقف لا يعرف كيف سينتهي وعند اسم من؟ أو في أي ملجأ؟‏.‏

نعم‏,‏ كانت كلمات قاسية ومؤلمة‏,‏ لم يفلح زوجي في إيقافي أو انقاذ الموقف‏,‏ لحظات رهيبة‏,‏ اختفي بعدها ابني وتركني في جحيم‏..‏ غير موجود في المكتب‏,‏ لا يرد علي هاتفه‏,‏ ولا يعود في المساء إلي بيته‏ أيام طويلة من العذاب والبحث‏,‏ حتي فوجئت به يطرق بابي‏,‏ ويحدثني بغلظة رافضا توجيه كلمة أو نظرة للرجل الذي رباه وتحمله وحمله اسمه‏,‏ قال لي في صيغة آمرة‏:‏ لقد بعت كل شيء في مصر‏,‏ وانهيت إجراءات سفري إلي كندا‏,‏ وعليك الآن أن تختاري‏,‏ إما أن تذهبي معي ومع زوجتي وابني‏,‏ وإما أن تظلي هنا مع هذا الرجل ولن ترينني مرة ثانية‏..‏ وقبل أن أرد بكلمة‏:‏ أو أحاول استدراجه إلي حوار‏,‏ أخبرني أن أمامي أسبوعين لأحدد اختياري وانصرف مهرولا‏.‏

سيدي‏..‏ زوجي يمارس نبله وكرمه ويقول لي سأرضي بأي خيار يسعدك ولن ألومك أو أغضب منك‏..‏ وأنا حائرة كيف لي أن أضحي بمثل هذا الرجل؟ وفي الوقت نفسه قلبي يتمزق عندما أتخيل أني لن أري ابني أو أحفادي مرة أخري‏..‏ عقلي توقف عن التفكير‏..‏ فهل لديك نصيحة؟

*‏ سيدتي‏..‏ كثيرا ما نشاهد في الدراما التليفزيونية مالا نصدقه‏,‏ ونراه شطحات مؤلفين‏,‏ مثلما نقول الآن عن مسلسل سكة الهلالي ذلك الرجل الذي يبدو مثاليا‏,‏ ولكن خطيئته القديمة تلاحقه بعد أكثر من عشرين عاما وتجعله يعتقد خطأ أنها أثمرت ابنة ظهرت لتدمر كل استقراره وظن أنه تجاوز الماضي بكل خطاياه وآثامه‏,‏ هذا في الدراما والتليفزيون ولا نصدقه‏.‏

ولكن عندما نقرأ مثل قصتك‏,‏ نكتشف أن خيال الواقع أوسع وأعمق بكثير من خيال كل المؤلفين والكتاب‏.‏

إن مأساتك ياسيدتي شديدة التشابك‏,‏ فعندما أفكر في موقف ابنك أو نبل وشهامة زوجك‏,‏ يقذفني التفكير إلي اصلاحك للخطيئة بإثم آخر‏,‏ فقد خالفت الشرع أنت وزوجك‏,‏ بنسب ابن إلي غير ابيه‏,‏ بما في ذلك من اختلاط للأنساب‏,‏ قد يعجز تفكيرنا العاطفي والتماس الأسباب عن تصور ما قد يسفر عنه من كوارث أقلها وأبسطها توريث من لا يستحق وحرمان الأحق‏,‏ لذا سأترك مناقشة موقف الشرع مما ارتكبتيه للعلماء لعل أحدهم يفتينا في مثل هذا الوضع‏,‏ ويحدد لك ما الذي يجب فعله للتكفير عن هذا الإثم‏,‏ حتي لو كان الثمن كبيرا‏.‏

وبالطبع ليس من حقي ولا من حق أحد أن يلومك علي خطيئتك‏,‏ فأنت تعرفين قدرها‏,‏ وقضيت حياتك تستغفرين ربك وتعبرين عن ندمك‏,‏ فليس هذا هو موضع اللوم والتأنيب‏.‏

يبقي الموقف الأزمة‏,‏ ابن لاقي أحسن تربية من أم مثلك ورجل قام بدور الأب خير قيام‏,‏ ولكنه جنح وارتكب خطأ في حق نفسه وحق زوجته وحق تلك السكرتيرة التي تزوجها عرفيا‏.‏ هذا الخطأ الذي دفعك لكشف السر الذي احتفظت به أكثر من ثلاثين عاما‏,‏ فكسرته أمام نفسه‏,‏ وجعلته يري نفسه ابن حرام فيكره الرجل الذي أحسن تربيته‏,‏ ويشعر أن لن ينقذه من إحساسه المفزع بالغربة وباليتم سوي الهرب إلي الخارج‏,‏ إلي بلد آخر لا يعرف فيه أحدا ولا أحد يعرفه‏.‏ إذن هو موقف انفعالي يجب عليك وعلي زوجك تفهمه‏.‏

وإن كان هذا لا يعني عدم إدانة الابن‏,‏ لأنه لو تمهل قليلا لاكتشف أنه هو الآخر يرتكب جرما كبيرا‏,‏ لايقل عما ارتكبته وإن كنت تحملت نتائجه فها هو يغرر بفتاة باسم الزواج‏,‏ ثم يريد الفرار ويتركها تواجه المجتمع بابنهما وحيدة مذعورة‏,‏ موقف يتنافي مع الرجولة ومع غضبته من الحقيقة التي آلمته‏.‏ هذه الحقيقة كان يجب أن تعيده إلي صوابه حتي لا يضع ابنه في موقف أسوأ مما وقع هو فيه‏.‏

سيدتي‏..‏ قرارك لا يحتاج إلي تفكير‏,‏ فالتضحية بمثل زوجك غير مقبولة‏,‏ هذا الرجل الذي وهب حياته لك ولابنك‏,‏ وسترك في الدنيا فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏,‏ أدعوكما إلي محاولة أخري مع الابن‏,‏ قولا له أن يفعل مايشاء‏,‏ ولكن عليه أن يعترف بابنه ثم يسافر إذا أراد‏,‏ فإذا نجحتما في ذلك‏,‏ فإنكما تكونان قد قطعتما نصف المسافة‏,‏ وحاولي سيدتي أن تحافظي علي جسر للمودة معه‏,‏ لعله بعد سفره وغربته يهدأ ويستعيد عقله واتزانه‏.‏ أما إذا أصر علي موقفه من زوجته العرفية وجنينها‏,‏ فإن عليك أن تخوضي معركتها التي هي كانت معركتك‏,‏ وتقفي بجانبها في المحاكم حتي تحصل علي نسب ابنها لابنك‏,‏ حفظك الله وزوجك الكريم‏,‏ وهدي سبحانه وتعالي ابنك إلي صواب الفعل والقول وأدخل اللين والمحبة إلي قلبه حتي يري ما اختلط عليه وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق