الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢

مــذاق الحــــب

06-10-2006
اسمح لي بأن أفتح قلبي وأتحدث اليكم‏,‏ أعود بالذاكرة الي خمسة وثلاثين عاما مضت‏..‏ حينها كنت شابا في الخامسة والعشرين‏,‏ أحمل مؤهلا جامعيا‏,‏ وأنتمي لأسرة مستقرة سعيدة‏..‏ وكنت أنا الابن الأثير المحبوب خاصة من الوالدة رحمها الله‏..‏ ألحت علي والدتي بالزواج‏..‏ ولم تكن مشاعري قد اتجهت لأي فتاة‏,‏ فتكفلت هي بالبحث عن زوجة لي‏,‏ فوافقتها علي الفتاة التي اختارتها شريكة لحياة ابنها‏,‏ وتم الزواج‏,‏ وانتقلت زوجتي الي شقتي‏..‏ ولم أحمل اليها سوي التقدير والمعاملة الطيبة‏..‏ لكن مفاتيح قلبي لم يستول عليها ولم تقتحم قلعته‏.‏

ولا أذكر سوي أن الأيام قد مرت علي متشابهة بحلوها ومرها‏..‏ ثم بفضل الله وفقت الي السفر لاحدي الدول العربية‏..‏ فسافرت ومعي زوجتي وبدأت رحلة شاقة من الكفاح والعمل الدائم المتواصل ولايساندني سوي دعوات الوالدة‏,‏ أما زوجتي فكانت كلما تحدثت الي لم تكف عن الطلبات التي لاتنتهي‏,‏ من سيارة الي شقة خاصة الي حساب بالبنك الي مجوهراتها الثمينة‏..‏ ولم أرفض لها طلبا حيث ان الله عز وجل قد من علي ورزقني من فضله‏,‏ وهكذا سارت حياتنا علي وتيرة واحدة‏,‏ أعمل ليل نهار وارتقي واتدرج في منصبي سريعا‏,‏ وننتقل من ثراء الي ثراء أكبر‏..‏

حتي شغلت منصبا مرموقا‏..‏ واستقرت أحوالنا المادية‏..‏ وأقر الله عيني بأربعة أبناء‏..‏ وزادت مسئولياتي تجاههم‏,‏ فصارت اجازاتنا الي مصر محدودة جدا في المناسبات فقط‏,‏ ونشأ أبنائي تحت عيني وسهرت علي راحتهم وراحة زوجتي‏,‏ وبذلت قصاري جهدي لأوفر لهم كل شيء‏,‏ وأغدقهم حبا وحنانا‏..‏ وصار وقتي مقسما بين العمل والمنزل ليس إلا‏.‏

ومرت السنون‏,‏ فطلب الأبناء مني أن يعودو الي مصر برفقة والدتهم لاستكمال الدراسة الجامعية والاستقرار هناك‏,‏ فلم أعترض‏,‏ وقدرت لهم موقفهم ورغبتهم في الاقتراب من الأهل بمصر وصعوبة استمرارهم معي خارج البلاد‏..‏ وصرت أنظم زيارة لأهلي كل ثلاثة أشهر تقريبا وأجد في استقبالي قائمة بالمتطلبات والمستلزمات‏,‏ وعلي رأس القائمة طلبات زوجتي الباهظة‏..‏ وبكل سعة الصدر وكل الحب‏,‏ ألبي طلباتهم وأسعد لإرضائهم‏.‏

واختار ابني الأكبر فتاة من أسرة مناسبة وتقدم لخطبتها وتم الزواج سريعا‏,‏ ثم تزوجت ابنتي من شاب فاضل‏..‏ قدمت له كل العون واعتبرته ابنا لي‏,‏ وتقدم ابني الأوسط لخطبة فتاة كانت زميلة دراسته وبفضل الله لم نكلف احدا فوق استطاعته مطلقا‏,‏ولم يتبق سوي ابني الاصغر الذي لايزال يستكمل دراسته‏.‏

ورزقني الله بالاحفاد وصرت أنهي عملي سريعا واسترق الاجازات لزيارة أهلي‏..‏ ورغم السعادة الا انني كنت أشعر انني حزين النفس‏..‏ أفتقد شيئا جوهريا أبحث عنه طوال الوقت‏,‏ صامت الفكر خالي البال وكلما خلوت بنفسي لم أجد ما أبحث عنه‏..‏

أين هو وأين أنا منه؟ علمت انه الحب الذي لم أشعر به ولم أتذوقه‏..‏ دعوت الله ان يرزقنيه ان كان لي فيه خير وحدثت المعجزة‏..‏ التقي قلبي في احدي الليالي بقلب ملائكي يشع نورا وحبا وحنانا‏,‏ ولم أتمالك نفسي فبكيت لأول مرة في حياتي بعد وفاة والدتي‏..‏ ما الذي جاء بهذا الحب في مثل هذا العمر؟ وأين كان؟

فتاة في العقد الثاني من العمر‏,‏ ذابت كل الحواجز بيني وبينها سريعا‏,‏ وصار منتهي الأمل والرجاء من الله ان يكلل هذا الحب بالزواج الشرعي‏.‏

وظل الفكر منشغلا لمدة أشهر‏..‏ كيف أتزوجها وهي ابنة العشرين؟ وأنا لست الا قبرا يتحرك علي الأرض؟ وعاهدت الله ان أؤمنها وأحافظ عليها وأقدم لها كل ما تتمناه عوضا عن فارق السن بيني وبينها‏,‏ ثم بدأت في عرض الأمر علي ابنتي‏..‏ فما كان منها الا أن قالت انت مجنون يابابا؟ انت متعرفش منصب زوجي ومركزه ايه؟ دي فضايح؟

فوقعت كلماتها علي سمعي كالصاعقة‏!‏ ماذا دهاكي ياابنتي؟

وما كان منها إلاان رفعت الأمر لاخوانها دون علم مني‏..‏ فتم التخطيط في سرية تامة وفوجئت بانه قد تم الحجر علي جميع أموالي وممتلكاتي‏,‏ وتم نقل الملكية باسم الزوجة والابن الأكبر‏.‏

وقام ابني بالاتصال بي وقال لو عايز فلوس يابابا احنا هنعطيك مبلغ أول كل شهر‏..‏ مصروفك يعني فلم أجبه سوي بكلمة واحدة‏:‏ سامحك الله‏,‏ وحمدت الله وقلت يكفيني دفء الحبيبة وهي فتاة قنوعة لاتعشق المال‏,‏ تكفيني هي من الدنيا‏..‏ وسامح الله ابنائي علي هذا الجفاء‏..‏ ولكن هيهات ان تهنأ عيني بذلك‏.‏

فقد تم فرض رقابة مشددة علي جميع تنقلاتي من قبل أبنائي وزوج ابنتي ومن قبل زوجتي ومعارفها‏..‏ واستأجروا من يقوم بمراقبة الشقة التي أقيم بها في الخارج ومراقبة مقر العمل ورقم الهاتف‏..‏ وفوجئت بزوجتي تأتي لزيارتي كل شهر تقريبا وهذا مالم تفعله منذ سنوات طوال‏..‏ وتتأكد تمام التأكد من أن مقر اقامتي يخلو مما يثير شكوكها‏.‏

فأخبرتها انني يحق لي الزواج وانني سأعدل بينها وبين حبيبتي‏..‏ ولكنها باغتتني قائلة وسيدات المجتمع يقولو عني ايه؟ واقسمت بالله ان تزوجت فتاتي لتقتلني وتقتلها‏..‏ هددتني بانني ان استطعت أن أوفر لها الحماية فبعد مماتي ستنقض عليها وتنتقم منها‏..‏ ولن ترث مني شيئا‏.‏

ولم تتوقف الاتصالات الهاتفية من قبل جميع أقارب زوجتي تحمل التهديد والوعيد‏.‏

ولم يقو قلبي علي الوقوف امام ابنائي في المحاكم وسجالات القضايا‏.‏

وأصبح ابني يستعرض أمامي قوته ونفوذه ويتفنن هو واخوته في تكبيلي بقيود لاحصر لها وصلت الي درجة التهديد بالقتل‏..‏ وقام برفع عدة شهادات وتقارير طبية غير سليمة الي رئيسي بالعمل يخبره فيها أن والده الذي هو انا يعاني ضعفا في قواه العقلية‏..‏ فقدمت استقالتي ولكنها لم تقبل وكان الرد من قبل صديقي المخلص ومدير العمل بأنني من المؤسسين القدامي وممن لايمكنهم الاستغناء عني‏..‏ فقبلت نزوة لا عن رغبته‏,‏ علي وعد منه بأن يتم قبول الاستقالة فور العثور علي من يتمكن ان يحل محلي‏.‏

وصارت ابنتي تتصل بي هاتفيا كل يوم وتسمعني أقبح الكلمات وأعنفها‏,‏ فأبكي وأنا أري أبنائي الذين أفنيت حياتي لأجلهم يتكاتفون ضدي ويلتفون حول والدتهم‏.‏

ولم أجد مفرا من إخبار حبيبتي بالحقيقة المرة المؤلمة‏,‏ أخبرتها أن القطة قد تأكل أبناءها وقت الخطر وحال خوفها عليهم‏..‏ ولم أحتمل الصدمة عليها وفوجئت بدموعي تنهمر وانا أخبرها‏,‏ واشتدت أزماتي الصحية ورقدت بالمستشفي قرابة الشهر لم يزرني فيها سوي اصدقائي في الخارج‏..‏ وفور تحسن حالتي توجهت الي بيت الله الحرام يضمني وقضيت أكثر من شهر ما بين مكة والمدينة‏.‏

سيدي أنا لا أخشي علي حبيبتي ألا تتمكن من تجاوز الأمر وطي صفحة حبي من كتابها‏,‏ وأخجل من موقفي أمام أهلها الذين كنت قد عقدت العزم علي التقدم لهم فور زيارتي لمصر‏.‏

أما انا أخي الكريم‏,‏ فأحيا حياة لا لون لها ولا طعم وأقضي ما تبقي لي من أيام بين عملي وبين بيت الله الحرام‏..‏ واعتزلت العالم بأكمله‏,‏ وعافت نفسي حتي المجيء الي مصر‏..‏ فطبقا لتنبيهات ابني‏,‏ فانه لايجوز لي بأي حق أن أدخل بيتي أو مكتبي الا بعد استئذانه‏!!‏

والان انا لاأملك سوي ان ارسل الي حبيبتي عبر بابكم علها تقرأ هذه الكلمات‏:‏ صدقيني ان الظروف جدا قهرية‏,‏ وادعو الله لك بالتوفيق في كل سجود وان يجمعني بك في مستقر رحمته وان يزوجني اياكي في جنات النعيم‏..‏

ولتكوني كما رأيتك دائما‏..‏ باسمة الوجه هادئة الحضور محبة للخير‏,‏ ولاتسمحي لأي نازلة ان تقهرك‏..‏ ولتكن آمالك معلقة بالله عز وجل وعندما يرزقك الله بابن‏,‏ فأرجو ان تسمينه باسمي‏..‏ والعمر قصير واللقاء قريب بإذن الله تذكريني دائما‏.‏

سيدي‏..‏ ما بين رفضي لضعفك في الزمان الخطأ‏,‏ وغضبي من سلوك أبنائك وزوجتك‏,‏ أجدني في زاوية رؤية أخري لحكايتك‏,‏ تطرح سؤالا كاشفا‏:‏ ما الذي حدث؟‏..‏ أسرة كانت تبدو هانئة‏,‏ رحلة طويلة من المشاركة‏,‏ أثمرت أبناء صالحين وأحفادا‏,‏ لم تشك منهم ولا من عقوقهم الا بعد قرارك الأخير‏,‏ نعم لم تتزوج عن حب‏,‏ ولكن تلك الزوجة شاركتك رحلة كفاحك حتي اعتليت أعلي المناصب واستقرت أحوالنا المادية‏,‏ وأقر الله عيني بأربعة أبناء لم يكن هناك ما يستوقفك سوي طلبات زوجتك الزائدة‏,‏ ومع ذلك كنت تلبيها بنفس راضية‏..‏ فكيف حدث التغيير؟

إنه القرار الخطأ ياسيدي في حياة الكثيرين‏,‏ نقطة التحول‏,‏ قرار تقسيم الأسرة فريقين‏,‏ الفريق الأكبر في أرض الوطن‏,‏ وقائد الفريق وحده بعيدا ليتحول الي رصيد في البنك‏,‏ شقق وسيارات‏,‏ بدلا من حضن واحتواء وأمان‏.‏ أبناء في عمر التمرد في مرحلة التكوين‏,‏ في مجتمع مختلف وحدهم‏,‏ بلا أب‏,‏ بلا احتواء‏,‏ بلا نموذج‏,‏ مع امرأة اعتادت علي الوحدة‏,‏ علي القيادة‏,‏ علي التأثير‏,‏ علي الإنفاق بلا حسابات لتعويض وحدتها‏,‏ وكأنها تعاقبك علي غيابك‏.‏

هكذا كان حالهم‏,‏ أما أنت‏,‏ فقد وجدت الفرصة لتستدعي مالم تعشه وما حلمت به كنت أشعر انني حزين النفس‏,‏ أفتقد شيئا جوهريا أبحث عنه طوال الوقت‏,‏ علمت انه الحب الذي لم أشعر به ولم اتذوقه

وبدلا من ان توقن بحكمتك وخبرتك‏,‏ ان ما لم نأخذه ونسع اليه في شرخ الشباب‏,‏ لايحق لنا ان نأخذه ونحن في خريف العمر‏,‏ لانه سيأتي حتما علي حساب آخرين‏,‏ لم يجبروك علي الزواج من امرأة لم تحبها‏,‏ بل دفعوا أثمانا باهظة لغيابك عنهم‏,‏ ولكنك أغلقت عمرك ولم تر مذاقا آخر للحب غير الاتجاه في الطريق الخطأ‏.‏

ولأن سطوة هوي النفس تباعد ما بين العبد وربه‏,‏ فتفقده البصيرة وتجعله أنانيا‏,‏ اندفعت نحو فتاة‏,‏ أصغر من بناتك‏,‏ لم تكمل عامها العشرين واعتقدت انها تحبك‏,‏ فيما كان عليك ان تحميها من جهل مشاعرها وضعفها‏,‏ بدلا من ان تحرمها من حقها في بداية طبيعية مع شاب في مثل عمرها‏.‏ وأعيدك الي قراءة كلماتك مرة أخري‏,‏ وانت تتحدث عمن اختارهم أبناؤك‏,‏ بنين وبنات‏,‏ وكيف تتحدث عن التكافؤ‏.‏

سامحني علي قسوتي ولكنك ـ سيدي ـ أخطأت‏,‏ وكلمات رسالتك الأخيرة تكشف عن حالة مراهقة متأخرة‏,‏ تستدعي منك ان تعيد التفكير في رؤيتك للحب ومذاقه‏,‏ وإن كان هذا لايعني قبول تصرف أبنائك وزوجتك معك‏,‏ ليتهم قالوا لك انهم فعلوا ذلك حبا وخوفا عليك‏,‏ بدلا من الخوف علي صورتهم أمام الآخرين‏..‏ لايوجد مبرر واحد يسمح لابن أو ابنة بالتطاول علي أحد الوالدين‏,‏ وإن لم يتوبوا ويستغفروا ربهم علي ما بدر منهم تجاهكم فبئس مصيرهم‏.‏

سيدي‏..‏ اني متألم لحالك ولوجع مشاعرك‏,‏ ولكني أدعوك في هذه الأيام المباركة ان توجه طاقة الحب في داخلك ـ وأنت تتردد علي بيت الله الحرام ـ الي الله سبحانه وتعالي‏,‏ وتدعوه ان يبرئ قلبك مما ألم به‏,‏ ويهدي أبناءك اليك‏,‏ فالقادر علي الانتقام قادر علي الهداية‏,‏ وليتك تحاول ان تتقرب اليهم وتقربهم منك مرة أخري‏,‏ فقد يلتئم الشمل مع الأحفاد‏,‏ ولا يبقي في داخلك حلم ومذاق الحب المستحيل‏,‏ وتذكر دائما ما جاء في بعض الأحاديث القدسية‏:‏ عبدي أنا أريد‏,‏ وأنت تريد‏..‏ وتتعب نفسك فيما تريد‏,‏ ولايكون إلا ما أريد‏,‏ فكن لي كما أريد‏,‏ أكن لك كما تريد‏...‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق