06-10-2006
اسمح لي بأن أفتح قلبي وأتحدث اليكم, أعود بالذاكرة الي خمسة وثلاثين عاما مضت.. حينها كنت شابا في الخامسة والعشرين, أحمل مؤهلا جامعيا, وأنتمي لأسرة مستقرة سعيدة.. وكنت أنا الابن الأثير المحبوب خاصة من الوالدة رحمها الله.. ألحت علي والدتي بالزواج.. ولم تكن مشاعري قد اتجهت لأي فتاة, فتكفلت هي بالبحث عن زوجة لي, فوافقتها علي الفتاة التي اختارتها شريكة لحياة ابنها, وتم الزواج, وانتقلت زوجتي الي شقتي.. ولم أحمل اليها سوي التقدير والمعاملة الطيبة.. لكن مفاتيح قلبي لم يستول عليها ولم تقتحم قلعته.
ولا أذكر سوي أن الأيام قد مرت علي متشابهة بحلوها ومرها.. ثم بفضل الله وفقت الي السفر لاحدي الدول العربية.. فسافرت ومعي زوجتي وبدأت رحلة شاقة من الكفاح والعمل الدائم المتواصل ولايساندني سوي دعوات الوالدة, أما زوجتي فكانت كلما تحدثت الي لم تكف عن الطلبات التي لاتنتهي, من سيارة الي شقة خاصة الي حساب بالبنك الي مجوهراتها الثمينة.. ولم أرفض لها طلبا حيث ان الله عز وجل قد من علي ورزقني من فضله, وهكذا سارت حياتنا علي وتيرة واحدة, أعمل ليل نهار وارتقي واتدرج في منصبي سريعا, وننتقل من ثراء الي ثراء أكبر..
حتي شغلت منصبا مرموقا.. واستقرت أحوالنا المادية.. وأقر الله عيني بأربعة أبناء.. وزادت مسئولياتي تجاههم, فصارت اجازاتنا الي مصر محدودة جدا في المناسبات فقط, ونشأ أبنائي تحت عيني وسهرت علي راحتهم وراحة زوجتي, وبذلت قصاري جهدي لأوفر لهم كل شيء, وأغدقهم حبا وحنانا.. وصار وقتي مقسما بين العمل والمنزل ليس إلا.
ومرت السنون, فطلب الأبناء مني أن يعودو الي مصر برفقة والدتهم لاستكمال الدراسة الجامعية والاستقرار هناك, فلم أعترض, وقدرت لهم موقفهم ورغبتهم في الاقتراب من الأهل بمصر وصعوبة استمرارهم معي خارج البلاد.. وصرت أنظم زيارة لأهلي كل ثلاثة أشهر تقريبا وأجد في استقبالي قائمة بالمتطلبات والمستلزمات, وعلي رأس القائمة طلبات زوجتي الباهظة.. وبكل سعة الصدر وكل الحب, ألبي طلباتهم وأسعد لإرضائهم.
واختار ابني الأكبر فتاة من أسرة مناسبة وتقدم لخطبتها وتم الزواج سريعا, ثم تزوجت ابنتي من شاب فاضل.. قدمت له كل العون واعتبرته ابنا لي, وتقدم ابني الأوسط لخطبة فتاة كانت زميلة دراسته وبفضل الله لم نكلف احدا فوق استطاعته مطلقا,ولم يتبق سوي ابني الاصغر الذي لايزال يستكمل دراسته.
ورزقني الله بالاحفاد وصرت أنهي عملي سريعا واسترق الاجازات لزيارة أهلي.. ورغم السعادة الا انني كنت أشعر انني حزين النفس.. أفتقد شيئا جوهريا أبحث عنه طوال الوقت, صامت الفكر خالي البال وكلما خلوت بنفسي لم أجد ما أبحث عنه..
أين هو وأين أنا منه؟ علمت انه الحب الذي لم أشعر به ولم أتذوقه.. دعوت الله ان يرزقنيه ان كان لي فيه خير وحدثت المعجزة.. التقي قلبي في احدي الليالي بقلب ملائكي يشع نورا وحبا وحنانا, ولم أتمالك نفسي فبكيت لأول مرة في حياتي بعد وفاة والدتي.. ما الذي جاء بهذا الحب في مثل هذا العمر؟ وأين كان؟
فتاة في العقد الثاني من العمر, ذابت كل الحواجز بيني وبينها سريعا, وصار منتهي الأمل والرجاء من الله ان يكلل هذا الحب بالزواج الشرعي.
وظل الفكر منشغلا لمدة أشهر.. كيف أتزوجها وهي ابنة العشرين؟ وأنا لست الا قبرا يتحرك علي الأرض؟ وعاهدت الله ان أؤمنها وأحافظ عليها وأقدم لها كل ما تتمناه عوضا عن فارق السن بيني وبينها, ثم بدأت في عرض الأمر علي ابنتي.. فما كان منها الا أن قالت انت مجنون يابابا؟ انت متعرفش منصب زوجي ومركزه ايه؟ دي فضايح؟
فوقعت كلماتها علي سمعي كالصاعقة! ماذا دهاكي ياابنتي؟
وما كان منها إلاان رفعت الأمر لاخوانها دون علم مني.. فتم التخطيط في سرية تامة وفوجئت بانه قد تم الحجر علي جميع أموالي وممتلكاتي, وتم نقل الملكية باسم الزوجة والابن الأكبر.
وقام ابني بالاتصال بي وقال لو عايز فلوس يابابا احنا هنعطيك مبلغ أول كل شهر.. مصروفك يعني فلم أجبه سوي بكلمة واحدة: سامحك الله, وحمدت الله وقلت يكفيني دفء الحبيبة وهي فتاة قنوعة لاتعشق المال, تكفيني هي من الدنيا.. وسامح الله ابنائي علي هذا الجفاء.. ولكن هيهات ان تهنأ عيني بذلك.
فقد تم فرض رقابة مشددة علي جميع تنقلاتي من قبل أبنائي وزوج ابنتي ومن قبل زوجتي ومعارفها.. واستأجروا من يقوم بمراقبة الشقة التي أقيم بها في الخارج ومراقبة مقر العمل ورقم الهاتف.. وفوجئت بزوجتي تأتي لزيارتي كل شهر تقريبا وهذا مالم تفعله منذ سنوات طوال.. وتتأكد تمام التأكد من أن مقر اقامتي يخلو مما يثير شكوكها.
فأخبرتها انني يحق لي الزواج وانني سأعدل بينها وبين حبيبتي.. ولكنها باغتتني قائلة وسيدات المجتمع يقولو عني ايه؟ واقسمت بالله ان تزوجت فتاتي لتقتلني وتقتلها.. هددتني بانني ان استطعت أن أوفر لها الحماية فبعد مماتي ستنقض عليها وتنتقم منها.. ولن ترث مني شيئا.
ولم تتوقف الاتصالات الهاتفية من قبل جميع أقارب زوجتي تحمل التهديد والوعيد.
ولم يقو قلبي علي الوقوف امام ابنائي في المحاكم وسجالات القضايا.
وأصبح ابني يستعرض أمامي قوته ونفوذه ويتفنن هو واخوته في تكبيلي بقيود لاحصر لها وصلت الي درجة التهديد بالقتل.. وقام برفع عدة شهادات وتقارير طبية غير سليمة الي رئيسي بالعمل يخبره فيها أن والده الذي هو انا يعاني ضعفا في قواه العقلية.. فقدمت استقالتي ولكنها لم تقبل وكان الرد من قبل صديقي المخلص ومدير العمل بأنني من المؤسسين القدامي وممن لايمكنهم الاستغناء عني.. فقبلت نزوة لا عن رغبته, علي وعد منه بأن يتم قبول الاستقالة فور العثور علي من يتمكن ان يحل محلي.
وصارت ابنتي تتصل بي هاتفيا كل يوم وتسمعني أقبح الكلمات وأعنفها, فأبكي وأنا أري أبنائي الذين أفنيت حياتي لأجلهم يتكاتفون ضدي ويلتفون حول والدتهم.
ولم أجد مفرا من إخبار حبيبتي بالحقيقة المرة المؤلمة, أخبرتها أن القطة قد تأكل أبناءها وقت الخطر وحال خوفها عليهم.. ولم أحتمل الصدمة عليها وفوجئت بدموعي تنهمر وانا أخبرها, واشتدت أزماتي الصحية ورقدت بالمستشفي قرابة الشهر لم يزرني فيها سوي اصدقائي في الخارج.. وفور تحسن حالتي توجهت الي بيت الله الحرام يضمني وقضيت أكثر من شهر ما بين مكة والمدينة.
سيدي أنا لا أخشي علي حبيبتي ألا تتمكن من تجاوز الأمر وطي صفحة حبي من كتابها, وأخجل من موقفي أمام أهلها الذين كنت قد عقدت العزم علي التقدم لهم فور زيارتي لمصر.
أما انا أخي الكريم, فأحيا حياة لا لون لها ولا طعم وأقضي ما تبقي لي من أيام بين عملي وبين بيت الله الحرام.. واعتزلت العالم بأكمله, وعافت نفسي حتي المجيء الي مصر.. فطبقا لتنبيهات ابني, فانه لايجوز لي بأي حق أن أدخل بيتي أو مكتبي الا بعد استئذانه!!
والان انا لاأملك سوي ان ارسل الي حبيبتي عبر بابكم علها تقرأ هذه الكلمات: صدقيني ان الظروف جدا قهرية, وادعو الله لك بالتوفيق في كل سجود وان يجمعني بك في مستقر رحمته وان يزوجني اياكي في جنات النعيم..
ولتكوني كما رأيتك دائما.. باسمة الوجه هادئة الحضور محبة للخير, ولاتسمحي لأي نازلة ان تقهرك.. ولتكن آمالك معلقة بالله عز وجل وعندما يرزقك الله بابن, فأرجو ان تسمينه باسمي.. والعمر قصير واللقاء قريب بإذن الله تذكريني دائما.
سيدي.. ما بين رفضي لضعفك في الزمان الخطأ, وغضبي من سلوك أبنائك وزوجتك, أجدني في زاوية رؤية أخري لحكايتك, تطرح سؤالا كاشفا: ما الذي حدث؟.. أسرة كانت تبدو هانئة, رحلة طويلة من المشاركة, أثمرت أبناء صالحين وأحفادا, لم تشك منهم ولا من عقوقهم الا بعد قرارك الأخير, نعم لم تتزوج عن حب, ولكن تلك الزوجة شاركتك رحلة كفاحك حتي اعتليت أعلي المناصب واستقرت أحوالنا المادية, وأقر الله عيني بأربعة أبناء لم يكن هناك ما يستوقفك سوي طلبات زوجتك الزائدة, ومع ذلك كنت تلبيها بنفس راضية.. فكيف حدث التغيير؟
إنه القرار الخطأ ياسيدي في حياة الكثيرين, نقطة التحول, قرار تقسيم الأسرة فريقين, الفريق الأكبر في أرض الوطن, وقائد الفريق وحده بعيدا ليتحول الي رصيد في البنك, شقق وسيارات, بدلا من حضن واحتواء وأمان. أبناء في عمر التمرد في مرحلة التكوين, في مجتمع مختلف وحدهم, بلا أب, بلا احتواء, بلا نموذج, مع امرأة اعتادت علي الوحدة, علي القيادة, علي التأثير, علي الإنفاق بلا حسابات لتعويض وحدتها, وكأنها تعاقبك علي غيابك.
هكذا كان حالهم, أما أنت, فقد وجدت الفرصة لتستدعي مالم تعشه وما حلمت به كنت أشعر انني حزين النفس, أفتقد شيئا جوهريا أبحث عنه طوال الوقت, علمت انه الحب الذي لم أشعر به ولم اتذوقه
وبدلا من ان توقن بحكمتك وخبرتك, ان ما لم نأخذه ونسع اليه في شرخ الشباب, لايحق لنا ان نأخذه ونحن في خريف العمر, لانه سيأتي حتما علي حساب آخرين, لم يجبروك علي الزواج من امرأة لم تحبها, بل دفعوا أثمانا باهظة لغيابك عنهم, ولكنك أغلقت عمرك ولم تر مذاقا آخر للحب غير الاتجاه في الطريق الخطأ.
ولأن سطوة هوي النفس تباعد ما بين العبد وربه, فتفقده البصيرة وتجعله أنانيا, اندفعت نحو فتاة, أصغر من بناتك, لم تكمل عامها العشرين واعتقدت انها تحبك, فيما كان عليك ان تحميها من جهل مشاعرها وضعفها, بدلا من ان تحرمها من حقها في بداية طبيعية مع شاب في مثل عمرها. وأعيدك الي قراءة كلماتك مرة أخري, وانت تتحدث عمن اختارهم أبناؤك, بنين وبنات, وكيف تتحدث عن التكافؤ.
سامحني علي قسوتي ولكنك ـ سيدي ـ أخطأت, وكلمات رسالتك الأخيرة تكشف عن حالة مراهقة متأخرة, تستدعي منك ان تعيد التفكير في رؤيتك للحب ومذاقه, وإن كان هذا لايعني قبول تصرف أبنائك وزوجتك معك, ليتهم قالوا لك انهم فعلوا ذلك حبا وخوفا عليك, بدلا من الخوف علي صورتهم أمام الآخرين.. لايوجد مبرر واحد يسمح لابن أو ابنة بالتطاول علي أحد الوالدين, وإن لم يتوبوا ويستغفروا ربهم علي ما بدر منهم تجاهكم فبئس مصيرهم.
سيدي.. اني متألم لحالك ولوجع مشاعرك, ولكني أدعوك في هذه الأيام المباركة ان توجه طاقة الحب في داخلك ـ وأنت تتردد علي بيت الله الحرام ـ الي الله سبحانه وتعالي, وتدعوه ان يبرئ قلبك مما ألم به, ويهدي أبناءك اليك, فالقادر علي الانتقام قادر علي الهداية, وليتك تحاول ان تتقرب اليهم وتقربهم منك مرة أخري, فقد يلتئم الشمل مع الأحفاد, ولا يبقي في داخلك حلم ومذاق الحب المستحيل, وتذكر دائما ما جاء في بعض الأحاديث القدسية: عبدي أنا أريد, وأنت تريد.. وتتعب نفسك فيما تريد, ولايكون إلا ما أريد, فكن لي كما أريد, أكن لك كما تريد... وإلي لقاء بإذن الله.
مدونة بريد الجمعة مدونة إجتماعية ترصد أحوال الشارع المصرى والوطن العربى مدونة تتناول قصص, ومشكلات حقيقية للوطن العربى مثل: (ظاهرة العنوسة, الخيانة الزوجية, الخلافات الزوجية, التفكك الأسرى, الطلاق وآثاره السلبية على الأبناء, الحب من طرف واحد, مرض التوحد, الإبتلاءات من فقر ومرض وكيفية مواجهة الإنسان لها) ثم يعرض الموقع فى أخر كل موضوع رأى المحرر فى التغلب على هذه المحن
الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢
مــذاق الحــــب
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق