الجمعة، ٣ أغسطس ٢٠١٢

الحـلم القديم

26-05-2006
لطالما فكرت في الكتابة الي بريد الجمعة‏..‏ سنوات طوال تحملت فيها الكثير من المرارة والحزن‏..‏ ولكني كلما هممت بالكتابة أجدني أتراجع علي أمل ان تجيء السعادة قريبا ويكون الفرج علي الأبواب‏..‏ ولكن قدر الله وماشاء فعل‏..‏ أنا الابنة الكبري في أسرة تضم شقيقين وشقيقة صغري‏..‏ أربعة أبناء لأب مهندس ولأم لم يقدر لها أن تعيش طويلا وتركتنا صغارا لوالدي‏..‏ فكان لابد له من أن يبحث عمن تشاركه في تربيتنا‏..‏ وكان قد تزوج والدي من احدي قريباته المطلقة لعدم الانجاب‏..‏ رغبة منه في ألا يجيء لنا بأشقاء من زوجة أخري فتفضلهم علينا‏..‏ وسارت بنا الأيام‏..‏ والدي يكافح في عمله‏..‏ ونحن بين جدران المنزل نبحث عن الدفء والحنان فلانجده‏..‏ فزوجة أبي سيدة طيبة‏..‏ تقوم بكل أعباء المنزل علي أتم وجه‏..‏ لكنها أبدا مااستطاعت أو حاولت ان تحتوينا وتضمنا اليها‏..‏ أحيانا ألتمس لها العذر‏..‏ فأربعة أطفال مهمة ثقيلة‏..‏ وأحيانا أخري أجدها مقصرة تجاهنا‏..‏ كثيرا ما بكيت وأنا أحاول ان أتذكر أمي وهي تحتضنني وتقبلني أو تلاعب أخي‏..!!‏ هكذا عشنا أسرة لكن جوهرها مفقود الحب‏..‏ انسحبت السنوات سراعا‏..‏ كبرنا‏...‏ تخرجت في احدي الكليات النظرية‏..‏ ف
رحت بأنني سأبدأ حياتي وأخرج للعمل‏,‏ لكن كان للقدر رأي آخر‏..‏ سقط والدي مريضا‏..‏ بدأت معه رحلة العيادات ومعامل التحاليل وانتهيت مرافقة له بأحد المستشفيات الكبري بعد اجراء جراحة خطيرة في القلب‏..‏ خرج منها والدي سالما وحمدنا الله وسجدنا له علي نعمته‏..‏ وبعد عام‏..‏ نام والدي وفي الصباح لم يستيقظ‏..‏ مات من كنا نحتمي به ونستمد منه معني الحياة وإشراقتها‏..‏ أصبحنا يتامي الأم والأب‏..‏ أما الأهل فكان آخر لقاء لنا بهم في الخميس الثالث لوالدي‏..!!‏

من ساعتها انفضوا من حولنا قائلين اننا ماعدنا صغارا ونستطيع تدبير أمور حياتنا‏..‏ أغلقنا علينا بابنا وانعزلنا عن الناس‏..‏ وجدت نفسي أكبر اخوتي‏..‏ فبدأت أهتم بدراستهم وأحوالهم‏..‏ وزوجة ابي مازالت تقوم بمهامها في البيت‏..‏ أكرمها الله جزاء ما قدمت لنا‏..‏ بفضل الله حصلت علي فرصة عمل محترمة وبدأت أخطط ماذا سأشتري لاخوتي ووالدتي من أول مرتب‏..‏

وقبل ان ينتهي شهري الأول في العمل ماتت والدتي التي ربتني‏..‏ عانينا شعور اليتم لثالث مرة‏..‏ وكان إحساسا قاسيا علينا جميعا‏..‏شعرنا بأن الحياة تعاندنا وان الاحزان لاتعرف غير طريق بيتنا لتقيم فيه‏...‏

نظرت حولي فوجدت الاكتئاب والصمت يتسلل الي أرجاء منزلنا‏..‏ بدأت أغير من عاداتنا‏..‏ وأصطحب اخوتي للخروج معا للترويح عن النفس أو شراء ملابسنا‏..‏ وعاهدت نفسي ألا يعرف اخوتي اليتم مرة رابعة فكنت لهم الأب والأم‏..‏ تخرج شقيقاي وشقا طريقهما في الحياة‏..‏ استقر الأول في احدي المحافظات الساحلية وتزوج بها‏,‏ وسافر الآخر لاحدي الدول العربية ثم عاد وتزوج واصطحب زوجته معه‏..‏ وبقيت انا وشقيقتنا الصغري‏..‏ وما أدراك بفتاتين وحيدتين إلا من ربهما‏..‏ كنا نخرج في الصباح للعمل ونعود لنأكل طعامنا وحدنا‏..‏ نبقي أمام التليفزيون حتي يتسلل النوم الي عيوننا فننام تحتضن احدانا الأخري‏..‏ كنت أبكي بعيدا عن عيني أختي‏..‏ فلا أحد لنا‏..‏ ولا هناك من يدق علينا الباب ليسأل عنا‏..‏ حتي في الأعياد والمواسم لايتذكرنا الأقارب بزيارة واحدة‏..‏ وتقدم عريس لأختي‏..‏ بعد ان رفضت انا الزواج لسنوات لكي أظل وسط اخوتي فضاعت علي فرص كثيرة ـ فرحت لفرحها‏..‏ لكن لم يشأ الله ان يتم فرحتنا‏..‏ ولم يجعل لها الله نصيبا في هذا الانسان‏..‏ لأفاجأ بصغيرتي تسقط مريضة‏..‏ حكمتك يا الله ـ وأصبحت مسئولة عن حبيبتي المريضة ولم يتمكن شقيقاي من مشاركتي الاعتناء به
ا لمشاغلهما ولحياتهما‏..‏ بدأت أفقد صبري بعض الشيء وأنا أري أختي يشتد عليها المرض‏..‏ فكيف أعيش من بعدها؟ ولمن ومع من‏..‏؟‏!‏ كان جسدها الرقيق يزداد نحولا يوما بعد يوم‏..‏ فأشد من أزرها وأدعوها إلي أن تهزم المرض‏..‏ فيعود التورد الي وجنتيها أياما ثم لا يلبث الاصفرار يحتل وجهها الضعيف‏..‏ في هذه الاثناء تقدم لي زميل بالعمل‏..‏ ففكرت انه قد يكون الوسيلة الوحيدة كي أجد من يقف معي في محنتي‏..‏ تزوجت وقبل ان اشتري فستان الفرح اشتريت لاختي فستانا جميلا‏..‏ وفي الفرح كانت عيني علي صغيرتي وليست علي زوجي‏..‏ جاءت أختي معي الي شقة الزوجية‏..‏ أهملت زوجي لأهتم بصغيرتي‏..‏ دبت المشاكل بيننا‏..‏ أحست أختي بالمشكلة فأصرت علي العودة الي منزلنا‏..‏ أصبحت مشتتة بين بيتي وأختي التي تحتاجني كل يوم‏..‏ لم يحتمل زوجي‏..‏ وكما تزوجني بكل بساطة‏..‏ طلقني‏..!!‏

عدت أحتضن أختي وأرعاها‏..‏ لكن الله بعد ان طهرها وغسلها بصبرها علي ما ابتلاها به اختارها عنده‏,‏ لينعمها في جناته ويجعلها من الحور العين بإذن الله‏.‏

تركتني حبيبتي أعاني وحدتي وحزني‏..‏ أعود من عملي‏..‏ تستقبلني جدران الشقة بصمتها وبرودتها‏..‏ تراوحني ذكريات أيام أبي وأخوتي‏..‏ وصخبنا‏..‏ افتقدتهم جميعا‏..‏ لا أجد من أحدثه أو أخرج معه أو حتي أذهب للمصيف معه‏..‏ الحياة ياسيدي قاسية في وحدتها‏...‏ لكني لا أحمل مرارة في نفسي‏..‏ فمازلت وأنا سيدة وحيدة في أول الأربعين أمارس كل يوم طقوس حلمي القديم بأن أجد من يحبني ويعوضني عن حياتي التي عشتها أقدم لكل من حولي الحب والعون والرحمة‏..‏ فهل أنا ياسيدي انسانة خيالية‏..‏ أم ان للحلم وقتا لكي يصبح حقيقة أتنفسها وأشعر بسعادتها؟‏!‏

**‏ سيدتي‏...‏ مع مثلك تعجز كلمات المواساة‏,‏ ويتحول النصح الي ثرثرة لا تداوي جراحا‏,‏ خاصة اذا كانت غائرة في القلب‏.‏
فالحياة التي عشتها ـ وان كانت قصيرة ـ تجعلها المصائب طويلة‏.‏

وما أقسي علي انسان ان يفتح عينيه علي الحياة‏,‏ وقبل ان يستوعب الأيام ويخبر ضرباتها‏,‏ ترحل عنه صاحبة الحب الخالص‏,‏ والتي لايعادل حبها ولايقدر عليه غير الأم‏.‏

ومن غير استعراض لكل ما سردته في كلماتك التي تضج كلماتها بالصدق‏,‏ سارت حياتك حلما يوقظك منه الموت سريعا‏,‏ لتواجهي واقعا أصعب‏,‏ فتتماسكين‏,‏ وتواصلين زحفك‏,‏ مضحية بنفسك من أجل اخرين‏,‏ لتكتشفي في نهاية الرحلة انك وحيدة في هذه الحياة القاسية التي قال عنها سيدنا علي بن أبي طالب‏:‏

آف علي الدنيا وأسبابها فإنها للحـــزن مخلوقــــــة همومها ماتنقضي ساعة عن ملك فيها وعن سوقة

إنه واقع صعب‏,‏ يكشف ما وصلنا اليه من تفكك عائلي واجتماعي‏,‏ أين شقيقاك ياعزيزتي‏,‏ وأين أقاربك وجيرانك وأصدقاؤك؟‏!‏

فالحياة ليست زوجا فقط قد يكون وجوده خيرا‏,‏ وقد يكون عبئا جديدا أو ألما مخبوءا‏,‏ فالسعادة تكون باثنين فقط‏,‏ علي فرض ان هذا الثاني الذي لم يأت بعد‏,‏ قد يظهر في أي لحظة‏.‏

وحتي لا أحملك أحزانا جديدة بالتأمل فيما وفيمن حولك‏,‏ دعينا نتأمل الحياة‏,‏ تلك الشعلة التي إما ان نحترق بنارها راضين بهذا الخيار‏,‏ وإما ان نطفئها ونعيش في ظلام‏.‏
أعتقد اننا جميعا نشترك ونعاني ونقبل الخيار الأول فـ‏:‏
من يصحب الدنيا يكن مثل قابض
علي الماء خانته فروج الأصابع

هذا الماء وماتبقي منه بين أصابعك لابد ان فيه شيئا يستحق ان تناضلي من أجله‏.‏ ما تبقي هو حلمك القديم‏,‏ هو ذاتك‏,‏ هو ان تمنحي نفسك‏,‏ كما منحت الآخرين‏..‏ لاتغلقي أبواب روحك علي مافات‏,‏ فلا أحد يعيش مع ما ومن مات‏,‏ والنفس التي تألمت هي القادرة علي التحليق في سماوات الحياة‏.‏

حلمك القديم يحتاج منك الخروج من قبو أحزانك‏,‏ استعيدي مقدرتك علي مواجهة الواقع‏,‏ كما فعلت من قبل‏,‏ اختاري ما تناضلين من أجله‏.‏ مدي يديك الي من يحتاجك‏,‏ فمن اعتاد ان يعطي الآخرين‏,‏ لم يجد سعادته الا في هذا العطاء‏,‏ وقتها ستجدين حلمك القديم يطرق نوافذ قلبك‏..‏ فالحياة اختيار لمن يصر علي أن يأخذ ماله منها‏..‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق