السبت، ٤ أغسطس ٢٠١٢

الهرم المقلوب‏!‏

05-08-2005
علي مدي أكثر من‏20‏ عاما‏ ظلت هذه الصفحة واحة للفضفضة والبوح والتواصل‏.‏ المتألمون‏,‏ الآملون‏,‏ وأصحاب القلوب والأيادي البيضاء‏,‏ من قراء الأهرام‏..‏ كانوا ضيوفا وأصدقاء للراحل الكاتب الصحفي الكبير عبدالوهاب مطاوع طوال كل هذه السنوات‏.‏

والأهرام إذ تعيد اليوم نشر بعض من بريد الجمعة وعلي مدي أسابيع قليلة قادمة‏,‏ انطلاقا من أن المشاكل الإنسانية تتشابه وتتكرر طالما في الحياة حياة‏,‏ ودون أن نعرف كيف تسير الأيام بأبطال هذه الحكايات بعد كل هذه السنوات‏..‏

وحرصا علي تجديد العهد بأن تظل هذه الصفحة عنوانا علي المحبة والمشاركة‏,‏ ستبدأ معكم التواصل من جديد بعد وصول رسائلكم عبر البريد الإليكتروني والفاكس‏.‏

مؤكد أن مشكلتي لم يعرض عليك مثلها من قبل لأنها نظرية جديدة من نوعها لوضع مقلوب حتي إنني وأنا صاحبة المشكلة لا استسيغها حتي الآن ولو سمعت بها من أحد لما صدقتها‏..‏ فأنا سيدة شابة اقترب من الثلاثين من عمري جميلة كما يقولون وعلي درجة عالية من التعليم والثقافة وحاصلة علي الماجستير في احد التخصصات النظرية المهمة

ومتزوجة من شاب وسيم عمره‏35‏ عاما يعمل عملا مرموقا بهيئة استثمارية مصرية ـ اجنبية وممتاز خلقا وعلما‏,‏ ولدينا طفلان صغيران ودخلي من وظيفتي كبير ودخله من عمله أكبر ونحن نعيش حياة ميسورة لانحتاج فيها لشئ‏..‏ وفي منتهي السعادة منذ تزوجنا قبل سبع سنوات ومنذ نحو السنة بدأت ألاحظ علي زوجي تغيرا غريبا يبدو معه دائما شاردا وواجما وذاهلا عنا

وسألته عن أسباب تغيره مرارا وتكرارا دون أن أظفر منه بإجابة شافية‏,‏ وشعرت بإحساس الزوجة بأن في الأمر شيئا كبيرا يتناقض مع شخصيته كزوج مثالي منذ أن عرفته‏,‏ فضغطت عليه ذات ليلة ورحت استجوبه طوال الليل لأعرف ما يخفيه عني فإذا به يحكي لي أنه يحب امرأة أخري ويريد أن يتزوجها وبلغ تأثره قمته فانسابت دموعه بغزارة ودفن وجهه في صدري وراح ينهنه بالبكاء كالطفل الصغير‏!‏ ونزل علي الخبر كالصاعقة واحترت بين صدمتي فيه كزوجة وامرأة وبين اشفاقي عليه مما أراه منه من ارتجاف وبكاء ودموع كالمطر‏!.‏

وقررت في تلك اللحظة أن أنحي القلب جانبا لفترة مؤقتة وأن استخدم العقل معه لكي أعرف أبعاد هذه الكارثة غير المتوقعة وسألته عن هذه المرأة الأخري وهل هي آنسة أم مطلقة‏,‏ فاذا به يضاعف من دهشتي وذهولي بقوله لي إنها أرملة توفي عنها زوجها منذ خمس سنوات‏,‏ وأن المشكلة التي يواجهها هي أنها ترفض الزواج منه‏!.‏

ووجدتني أرفع رأسه بعيدا عني بعنف وأصرخ فيه كيف يجرؤ علي ان يقول لي ذلك‏,‏ وماذا يجد في هذه المرأة ولا يجده لدي وهل هي جميلة إلي هذا الحد الذي يفقد معه عقله ويبكي ويولول من أجلها كالصغار‏,‏ فإذا به يجيبني بأنه يحبها بجنون ولا يستطيع الاستغناء عنها‏..‏ ويحبني أيضا بجنون ولا يستطيع الابتعاد عني‏..‏ وأن بعده عن إحدانا لن يمثل له سوي الموت‏.‏

ثم ينتحب ويولول ويضرب رأسه بالحائط حتي أشفقت عليه من أن يؤذي نفسه وأمسكت برأسه لأمنعه مما يفعل وانا في أعماقي أتمني أن اكسرها‏.‏

وربت علي كتفه وحاولت أن اتماسك بقدر المستطاع وسألته عن عمرها فإذا به يجيبني بأنها في الخمسين من العمر‏!‏

ولم استطع الاحتمال أكثر من ذلك امرأة في الخمسين من العمر؟ وتحب رجلا في الخامسة والثلاثين ويحبها حتي يبكي من حبها كالأطفال ويعرض عليها الزواج فترفضه برغم انه متزوج وله طفلان؟

ماذا جري في الدنيا وماذا جري لعقول بعض الرجال والنساء ياسيدي؟

لقد قررت أن أري غريمتي لأعرف ماذا بها مما لايتوافر في حتي سلبت زوجي عقله ورشده إلي هذا الحد‏,‏ وذهبت الي تلك الهيئة الاستثمارية التي تعمل بها هذه السيدة مديرة لإحدي إداراتها ورأيتها بدون أن اكلمها أو اتحدث معها فرأيت امامي امرأة ناضجة بها مسحة من جمال قديم أنيقة للغاية وشخصيتها قوية وصارمة ولاتفارق الابتسامة شفتيها‏..‏ وسمعت صوتها فوجدتها تصطنع الأنوثة الحارة الجذابة‏..‏ وخرجت من الهيئة والدموع هذه المرة في عيني انا واشعر شعورا قويا بأن هذه المرأة سوف تدمر بيتي وتستولي علي زوجي‏.‏

هذه هي مشكلتي ياسيدي‏..‏ ولقد جرت العادة وحكم الطبيعة أن يكون الرجل أكبر من المرأة‏,‏ أما أن تكون المرأة أكبر من الرجل بخمسة عشر عاما وتتأبي عليه وتتدلل فمبلغ علمي في ذلك انه ليس سوي اسلوب جديد للسحب والجرجرة النسائية‏,‏ ولقد وقع زوجي في الفخ واطبقت عليه شباكه‏,‏ وليس أماسي الآن سوي طريقين لاثالث لهما‏,‏ الأول هو أن ألفظ هذا الزوج الضعيف التافه واعيش لأربي الطفلين وحدي معتمدة في ذلك علي نفسي‏,‏ مع ملاحظة أن زوجي هذا لايعاني من أي مشاكل أو اسباب تدعوه

أو تبرر له الوقوع في هذه الكارثة لا من ناحية أسرته الصغيرة وهي زوجته وطفلاه‏,‏ ولا من ناحية تنشئته الأسرية حيث نشأ في بيئة صالحة وتربي تربية دينية مثالية وأبواه يعرفان ربهما جيدا ولم يفرقا بين الأبناء في تعاملهما معهم‏,‏ وقد دمعت عينا والدته حين شكوت لها مما اعانيه ورجتني ألا اتخلي عنه وأن اساعده حتي يجتاز هذه المحنة بسلام‏,‏ ولقد حرصت علي أن أذكر لك ذلك لكيلا تعتقد أن زوجي هذا يعاني من عقدة أوديب وأنه لهذا السبب قد اتجه بمشاعره إلي سيدة تكبره كثيرا في السن‏.‏

والطريق الثاني هو أن أقبل بما يفعله زوجي واسلم بالواقع المرير وهو أنه يحب تلك المرأة بجنون كما يدعي ثم إمعانا في الحفاظ علي بيتي فقد يصبح من واجبي انا أن أذهب إلي تلك المرأة وانحني علي يديها وقدميها باكية ومتوسلة إليها ان تتزوج زوجي‏,‏ لكي يهدأ ويستريح ويستعيد نفسه‏,‏ فبماذا تنصحني أن افعل ياسيدي وهل تري أن هناك حلا آخر؟

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏
لا يتمثل الوضع المقلوب فقط في أن يقع شاب في الخامسة والثلاثين من عمره في هوي امرأة في الخمسين من عمرها فيبكي وينتحب ويضرب رأسه في الحائط من وطأة حبها ورفضها للاقتران به‏,‏ ولا فقط في أن يقدم علي ذلك وهو زوج لشابة جميلة لاينكر عليها شيئا وأب لطفلين بريئين ورب لأسرة صغيرة سعيدة‏,‏ وانما ايضا وهو الأغرب من كل ذلك ان يفجر هذا الزوج الشاب المشكلة ويعترف بها لزوجته وهو يبكي وينتحب ثم يكتفي بذلك وكأنما قد أزاح عن صدره حجرا ثقيلا ثم لا يفعل بعد ذلك شيئا ايجابيا لحل هذه المشكلة وإنقاذ نفسه وزوجته واسرته من تداعياتها‏,‏ وكأنما قد اكتفي بتصدير المشكلة الي زوجته أو باقتسامها معها ثم واصل حيرته وتمزقه وتخبطه بغير أن يبذل أي جهد لمغالبة نفسه أو ردها عن غيها إلي أن يبرأ من هذا الغزو العاطفي الذي دهمه فأفقده رشده وثباته‏,‏ وبدون حتي أن يحسم تردده وتمزقه وحيرته بين المرأتين اللتين تتنازعان قلبه ويزعم انه يحب كلتيهما بجنون‏!‏

إن هذا هو الوضع المقلوب حقا وصدقا ولأنك تستطيع أن تقلب هرما لكنك لاتستطيع أن تجلس عليه وإلا انهار بك إلي أحد الجوانب كما يقول لنا الرئيس الأمريكي الاسبق ريتشارد نيكسون‏,‏ فإن زوجك ياسيدتي لايستطيع أن يجلس علي هذه الهرم المقلوب طويلا كما يريد الآن ان يفعل حتي ولو كان يخدع نفسه ويتصور أنه يستطيع الجلوس فوقه بزعمه لك انه يحب هذه المرأة الأخري بجنون ولا يستطيع البعد عنها ويحبك انت كذلك بجنون ولا يستطيع البعد عنك والإ كان الموت‏!‏

إننا إذا كنا نعترف بالضعف البشري ونسلم به ونرجو لصاحبه ألا يطول استسلامه له حتي لاتكون الخسائر فادحة‏,‏ فإننا لانستطيع في نفس الوقت أن نعترف لمن يعانيه بحقه في لي الحقائق وتلبيس الحق بالباطل بهدف ان يفوز بكل شئ‏,‏ وحكاية حبه الجنوني لكل من زوجته وهذه المرأة نوع آخر من قلب الحقائق والجمع بين الأضداد لكي تتماشي في النهاية مع هوي النفس الضعيفة ورغائبها‏.‏

وليس من الغريب أن يضعف الانسان ذات مرة فلقد خلق الانسان ضعيفا أمام اهوائه ورغائبه‏,‏ لكن الغريب حقا هو أن يستسلم لهذا الضعف بلا اية مقاومة من جانبه ولا أية محاولة لرد النفس عن اهوائها‏.‏

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلي قليل تقنع

وهذا صحيح ومعروف للجميع فلو ترك كل انسان لنفسه لما أفلتت من يده متعة واحدة من متع القلب والنفس بغير أن يطلبها ويري نفسه جديرا بنيلها مهما كان أثر ذلك علي غيره‏,‏ ولقد جبل الانسان علي أن يطلب لنفسه دائما الحد الاقصي من الاشياء‏,‏ ولولا روادع الدين والضمير والمسئولية والواجب الانساني العام والاستعداد الاخلاقي لوضع سعادة الآخرين في الاعتبار حين يطلب الانسان سعادته لما حال بين النفس وبين ما ترغبه حائل ولتحولت الدنيا إلي غابة‏,‏ ترتع فيها الوحوش الآدمية وتتصارع حول شهواتها ورغباتها واهوائها‏,‏

ولو ترك زوجك نفسه لاهوائها لما ارضاه شئ سوي أن تسلمي له بحقه في ان يحب هذه المرأة الأخري بجنون وسوي أن تتنازل هي فتقبل الارتباط به وهو زوج وأب برغم وضعه العائلي‏,‏ وبرغم فارق السن بينهما وأن تسعدي أنت بهذا الارتباط السعيد وتظلي بالنسبة له نفس الزوجة وشريكة الحياة ونفس الأم لأطفاله‏,‏ ولم لا؟ وهذا هو الوضع الأمثل والافضل بالنسبة له‏,‏ لكنه لان الانسان لايستطيع الجلوس علي الهرم المقلوب دائما فإن زوجك مطالب بأن يعين نفسه علي الشفاء

من هذه اللفحة التي زلزلت كيانه واستسلم لها بضعفه وعجزه عن المقاومة ونكوصه عن بذل الجهد الضروري لمغالبة هوي النفس وتحمل العناء المستحق في سبيل ذلك‏,‏ فان لم يرغب في تحمل هذا العناء فليعترف بالحقائق التي لاسبيل لإنكارها‏..‏ وليحسم أمره واختياره بين زوجته وبين من تتأبي عليه وترفض القبول به ربما احتراما لوضعها العائلي والاجتماعي‏..‏ وربما تعففا عن اغتصاب زوج لأخري وأب لأطفال‏..‏ وربما ايضا استشعارا لفارق السن الكبير بينهما وخجلا منه فإذا كان عاجزا عن الحسم والاختيار فليطلب منك اعانته علي اجتياز محنته واعدا إياك بتعويضك عما عرضك له من آلام في قادم الأيام‏,‏ أما أن يطلب منك فقط القبول بالأمر الواقع مع استمراره فيه ودون أن يخطو أية خطوة لمقاومته والنجاة منه فليس ذلك من العدل أو الحق في شئ‏.‏

لقد قال الكاتب المسرحي الأمريكي تنيسي وليامز في رواية خريف امرأة أمريكية إن أسوأ ما في الحب بين شاب صغير وامرأة تكبره في السن انه لامكان للكرامة فيه‏.‏

ولقد فهم الجميع عن حق من هذه الكلمة الحكيمة ان المرأة حين تحب شابا أصغر منها في السن فإنها قد تبذل غالبا كرامتها للاحتفاظ به‏,‏ لكن قصة زوجك مع هذه السيدة تضيف إلي معاني هذه العبارة معني جديدا ربما لم يخطر بذهن كاتبها وهو أن الشاب ايضا قد يبذل كرامته في حب امرأة تكبره في السن إذا ابتلي بحبها وكان ضعيفا لايقاوم ضعفه معها وكان احساسها هي بفارق العمر والوضع الاجتماعي عاليا‏,‏ أما الطريقان اللذان تقولين إنه ليس امامك طريق ثالث سواهما‏,‏ فالحق ان هناك دائما إلي جوارهما ذلك الطريق الثالث الذي ينتهجه راغبا أو مضطرا من لايريد أن يهدم عشه ويبدد أمان اطفاله وهو طريق الجهاد لاسترداد شريك الحياة التائه في بحر الظلمات والعودة به سالما بعد العناء إلي شاطئ الأمان‏,‏

ويتطلب اختيار هذا الطريق ألا يسلم الطرف المتضرر لشريك الحياة بالامر الواقع الذي يريد فرضه عليه وان يظل علي رفضه النفسي له مع استمرار جهوده ومحاولاته لانقاذ شريك الحياة من نفسه ومن اهوائه والتعامل معه خلال ذلك برفق الامهات وحكمتهن إلي ان يستعيد رشده ويكتشف خطر الهاوية التي يمضي اليها مع اشعاره دائما بان لكل اختيار ثمنه في النهاية وتبعاته‏,‏ وانه إذا اختار هوي النفس وحده فليوطن هذه النفس ايضا علي انها سوف تفقد الامان والاستقرار اللذين كانت تتمتع بها في ظلال زوجة محبة وأطفال أبرياء

ذلك أنه إذا كان لايستطيع أحد أرغامه علي اختيار شريكة الحياة وسعادة أطفاله دون هوي في نفسه فان أحدا في نفس الوقت لايستطيع أرغام هذه الشريكة علي أن تعترف له بحقه في الجمع بين الحسنيين والتمتع بكل متع القلب والعقل والاستقرار‏,‏ إذا هو اختار الطريق الآخر وامعن في السير فيه إلي ما لا نهاية‏,‏ ومهمها تبذل شريكة الحياة من جهد أو عناء في سبيل ذلك فان نبل الغاية التي يسعي اليها يبرر له هذا العناء ويهونه عليه‏..‏ ومع أن النجاح ليس مضمون النتائج في كل الاحوال فإن احتمال النجاح يسبغ علي الكفاح نبلا خاصا ويجعله جديرا بما نبذله من جهد لتحقيقه حتي ولم يكلل كفاحنا في النهاية ببلوغ الغاية كما يقول لنا عالم النفس وليم جيمس‏.‏

وأية غاية ياسيدتي تستحق الكفاح من أجلها أنبل من إنقاذ طفلين من التمزق بين أبوين منفصلين ومن التعاسة وافتقاد الأمان؟‏.‏

من بريد الكاتب الراحل ـ عبدالوهاب مطاوع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق