الخميس، ٢ أغسطس ٢٠١٢

حدث في المترو

21-12-2007
تبدو رسالتي إليك مختلفة كثيرا عن نوعية القضايا والمشكلات التي يتناولها هذا الباب ولكني اخترت ان أرسل إليك لمعرفتي بأن بريد الجمعة يقرؤه الملايين من هذا الشعب‏,‏ وما أتحدث عنه شديد الحساسية ويحتاج إلي عقول متفتحة وقلوب تحب هذا الوطن وتخشي عليه‏,‏ بعد ان أصبح الخطر عليه من أبنائه وليس من أعدائه المعروفين‏.‏

سيدي أنا شاب مسيحي من شبرا عمري يقترب من الثلاثين عشت أيام الطفولة والصبا بين زملائي وأصدقائي في المدرسة والشارع وأنا لا أشعر اني غريب أو خائف‏,‏ تعلمت ان الدين لله ومصر للجميع لم يبتعد عني أصدقائي وجيراني المسلمون لأني مسيحي ولم أشعر يوما ان علي عدم الاندماج معهم لأنهم مسلمون‏.‏

نعم أنا مسيحي وأؤمن بديانتي وأؤدي فروضي ولكن جزءا من تكويني إسلامي احترم هذا الدين وأمارس طقوسه بدون تفكير فأنا أسمع الأذان كل يوم خمس مرات وأسمع القرآن في المسجد وفي التليفزيون‏,‏ أشارك في جنازات المسلمين‏,‏ وأذهب إلي مقابرهم‏,‏ وأحضر عزاءهم‏,‏ أسعد بأعيادهم‏,‏ وأشاركهم فيها‏.‏

لي أصدقاء مسلمون كان أهلي يدفعونني لمصادقتهم لأنهم ملتزمون بفروض دينهم‏,‏ في حين كانوا يحذرونني من بعض أصدقائي المسيحيين لأنهم غير ملتزمين‏.‏

نشأت في هذه الأجواء يا سيدي لا أعرف إلا المحبة ولم أجن إلا المحبة ولكن منذ سنوات قريبة بدأ هذا الإحساس يتسرب من نفسي بعد ان كثرت الخلافات والأزمات بين المسلمين والمسيحيين‏,‏ وأصبحت بطلا رئيسيا علي صفحات الصحف فبدأت استشعر الاحتقان في القلوب‏,‏ تغيرت نظرات من حولي مسلمين ومسيحيين لا أستثني أحدا ولا أريد ان أخوض في تفاصيل ستقود في النهاية إلي مزيد من البعد وأنا لا أسعي من رسالتي إلا إلي عودة المحبة‏.‏

كل شيء يدعو إلي الانعزال‏,‏ حوارات الأصدقاء مملوءة بالمرارة‏,‏ وتبادل الاتهامات‏,‏ وأصبحت حكاية ولد أحب بنتا‏,‏ كل علي ديانة مختلفة دافعا لإشعال النيران‏,‏ واشتباك الأهالي‏,‏ وتدخل الشرطة‏,‏ بل وصلت الأمور إلي حد القتل‏,‏ ولم يعد غريبا ان نسمع عن أقباط المهجر وأقباط الداخل والهجوم علي الكنائس‏,‏ الاضطهاد‏,‏ وغيرها من الكلمات والأفعال التي لم تكن موجودة من قبل‏,‏ وكأننا شعبان نتصارع علي وطن كان يجمعنا تحت مظلته وحمايته‏.‏كل هذا يحدث ولكنه لم يدخل إلي قلبي الخوف‏,‏ نعم تسلل إلي الحزن والقلق‏,‏ ولكن شيئا ما كان يطمئنني بأن الله محبة ومحبته ستجمع أبناء هذا الوطن وستعيد إليهم وعيهم‏,‏ ويفيقون من الطريق المظلم الذي يسيرون فيه‏,‏ إلي ان وقع شيء أمام عيني‏,‏ سرب الخوف إلي قلبي وجعلني استشعر خطرا كبيرا يستحق منا جميعا ان نذهب إلي كلمة عاقلة تجمع ولاتفرق‏.‏

سيدي‏..‏ منذ أيام كنت استقل المترو في طريقي إلي محطة مبارك‏,‏ وفي محطة الدمرداش كان يجلس رجل ملتح يفتح المصحف‏,‏ ويقرأ بصوت مرتفع وعلي الرغم من أنني أري هذا السلوك غير متحضر وفيه تعد علي الآخرين بعيدا عن ديانتهم‏,‏ ويشبه في نظري من يمسك بالموبايل ويتحدث في أمور خاصة بصوت مرتفع‏,‏ فارضا الحوار علي الجميع في مواصلة عامة‏,‏ إلا انني اعتدت هذا المشهد في وسائل المواصلات‏,‏ فلم يعد يثير انتباهي وأراه سلوكا عاما للمصريين‏,‏ يبالغون في إظهار تدينهم بدون ان نري انعكاسا لما يقوله هذا الدين علي سلوكياتهم‏.‏

بينما كان الرجل مستغرقا في قراءة القرآن بصوت مرتفع فوجئنا جميعا بشاب يرفع صوت هاتفه المحمول بترانيم كنسية‏..‏ شاب مسيحي‏,‏ أراد بغباء ان يعبر عن رفضه لفكرة فرض ما يسمعه بدون استئذان‏,‏ وربما أراد ان يقول هو الآخر من حقي كمواطن ان أسمع ما أريد‏.‏

هنا بدأت الهمهمات تعلو في العربة‏,‏ وبدأت أصوات الاعتراض فسارع الرجل الملتحي بالتوقف عن قراءة القرآن‏,‏ فصرخ أحد الواقفين فيه اكمل القراءة هل تتوقف من أجل هذا الـ‏...‏ كلمة من الشاب وكلمة من هنا‏,‏ بدأت معركة من السباب ومحاولة الاعتداء بين كل الأطراف‏,‏ أصابني الشلل ولم أتحرك من مكاني وتسرب إلي خوف شديد لم أشعر به من قبل‏.‏

المهم أكمل لك ما حدث‏,‏ في مبادرة طيبة تحرك الرجل الملتحي إلي الشاب المسيحي ليعتذر له معترفا بأنه أخطأ في سلوكه‏,‏ ولكن للأسف كان الشاب المسيحي في حالة صمم‏,‏ وكأنه لم يفهم تلك البادرة الطيبة‏,‏ فتملكته العصبية والتعصب‏,‏ فأهان الرجل وسبه فما كان من الأخير إلا ان لكمه في وجهه‏,‏ وبدأت المعركة تشتعل من جديد‏,‏ ولم ينقذ الموقف إلا توقف المترو في المحطة التالية‏,‏ فسارع الناس بإنزال الرجل المسلم ومنعوا الشاب المسيحي من الهبوط‏,‏ وكان هذا هو الحل الأسلم والأمثل في مثل هذا الموقف العصيب‏.‏

هبطت من المترو في ميدان التحرير وأحسست بعدم الرغبة في أي شيء جلست علي مقهي أرمي بعيوني وأنا ذاهل وحزين‏,‏ حركة الناس الطيبين أبناء مصر‏,‏ لا أستطيع التفرقة بين المسلم والمسيحي كلنا في الهم كما في الفرح سواء‏.‏

ظللت أسأل نفسي‏:‏ ما الذي يحدث؟ ولماذا؟ ومن المستفيد منه؟ وكيف يمكن ان نعود إلي ما كنا عليه؟ ومن الذي عليه ان يجمعنا مرة أخري؟ كلها أسئلة طاردتني ولم أجد لها إجابة‏,‏ كل ما أعرفه اني مصري‏,‏ وليس لي وطن آخر‏,‏ ولست من أقلية تعيش في مصر‏,‏ بل أنا مواطن لي كل الحقوق‏,‏ حتي لو حاول البعض بجهل تقليصها‏,‏ أشتاق إلي جلسة أصدقائي المسلمين بأمان‏,‏ بدون أن أري في عيونهم اتهامات أو رفضا لي‏,‏ ولا أحب أن أسمع تحذيرات من أبناء ديني للابتعاد عن من أحببتهم‏.‏

ولكني لا أعرف الطريق إلي ذلك‏,‏ فهل يمكن ان تنير هذا الطريق‏,‏ أو تدعو المسئولين من الطرفين لحوار بناء حقيقي‏,‏ بدون صور المصافحات الباهتة والقبلات الباردة التي تطل علينا في الصحف والتليفزيون مع كل أزمة؟

***‏ سيدي‏..‏ أشكرك علي رسالتك الصادقة والكاشفة فالمجتمع الان يعيش حالة من الجهل والتعصب‏,‏ لا أعتقد ان مبررها هو تزايد الإيمان‏,‏ إنماهي نتيجة لأزمات يعيشها المواطن المصري ـ مسلما ومسيحيا ـ ويعجز عن مواجهتها فيتجه ظاهريا إلي التدين‏,‏ والبحث عن نقاط ضعف ينفذ منها ويبدو قويا قادرا علي الانتصار فيما الحقيقة انه يدمر نفسه ويواصل هزائمه‏.‏

ما يحدث ليس تدينا‏,‏ لأن الله سبحانه وتعالي يقول في سورة المائدة لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا‏,‏ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري‏,‏ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لايستكبرون‏(‏ صدق الله العظيم‏)‏ فالدين الإسلامي يغرس المحبة والمودة‏,‏ والرسول الكريم صلي الله عليه وسلم كان رفيقا بالكفار واليهود‏,‏ والمسيح عيسي بن مريم عليه السلام يقول فاليحب بعضكم بعضا إنها المحبة التي تدعو إليها كل الكتب السماوية والأنبياء والرسل‏,‏ والذين قلوبهم غلف هم الذين لايفهمون المعاني السامية في الأديان‏,‏ ولم يستسلموا إلي الفطرة التي ولدوا عليها‏.‏

القلب المحب ـ يا سيدي ـ يسع الدنيا‏,‏ ولايضيق بالآخر أيا كان دينه أو عقيدته‏,‏ فلو أراد الخالق ان يجعل الناس جميعا تتبع دينا واحدا‏,‏ لكان عليه أمرا يسيرا‏,‏ ولكن بعض الناس يعطون لأنفسهم حقوقا هي لله وحده يهدي من يشاء ويضل من يشاء‏,‏ ولكل ان يختار طريق وصوله إلي الله‏.‏

ليست الأزمة صراعا عقائدا وإنما هي في أحد أوجهها المتعددة غياب الفهم الحقيقي للدين وممارسة التدين كل يفسر حسب هواه‏,‏ ويحاول ان يفرض وان يطبق ما فهمه واستوعبه علي الآخرين‏,‏ ولو كان هذا المجتمع متدينا حقا‏,‏ ما انتشر الفساد‏,‏ وما تراجعت الأمة‏,‏ وماتخلفنا إلي هذا الحد‏,‏ الحقيقة أن التدين الآن ظاهري فقط بدون أن يلمس قلوب الكثيرين‏.‏

الأزمة الحقيقية هي في الظروف الاقتصادية الصعبة‏,‏ في حالة الإحباط التي تعيشها قطاعات متعددة‏,‏ مشكلات واعتصامات وإضرابات في المصانع كما في هيئات التدريس‏,‏ في القري والجزر كما هي في المدن‏.‏

اعتقد ان هذه الحالة من الإحباط واليأس لفئات كثيرة من المجتمع بمسلميه ومسيحييه هي التي منحت الفرصة لظهور هذه النتوءات علي وجه الوطن‏,‏ الذي أصبحت مناعته ضعيفة وتحتاج إلي مقويات عاجلة‏.‏

إن ما حدث في المترو‏,‏ وما حدث في إسنا وغيرها من النيران التي تشتعل لأسباب واهية وتافهة جرس إنذار‏,‏ فقد تنجح الحكومة في حل المشكلات الاقتصادية‏,‏ وتحل مشكلات الإسكان‏,‏ وترفع الظلم عن المظلومين‏,‏ ولكن نيران الفتنة لو اشتعلت بين أبناء الوطن لن يستطيع أحد ان يطفئها‏,‏ لذا أتمني ان يكون هناك حوار صادق بين عقلاء هذه الأمة بعيدا عن كاميرات الصحافة والتليفزيون لفهم ما يحدث وبحث كيفية مواجهته‏,‏ وإعادة الوئام إلي أبناء الوطن بدون تحديد ديانتهم‏,‏ فسوف يذهب الجميع وتبقي مصر دائما هي وطن المحبين وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق