الأربعاء، ١ أغسطس ٢٠١٢

مكافأة السماء

04-05-2007
في زمن غريب ولدت طبيبا‏,‏ وفي مستشفي عج بالفساد مارست المهنة‏,‏ وبحادث عجيب ولدت بطلا‏,‏ وبأسلوب رهيب صرت متهما‏,‏ وبقوة خالق الخلائق الرقيب الحسيب المجيب بزغت براءتي لتنير لي الطريق ولأسرتي‏,‏ أخرجنا الله من الظلمات إلي النور بعد أن أصبح الخير شرا‏,‏ والطيبة فجورا‏,‏ فغابت البهجة وانطفأ السرور يوم اصبح الطب تجارة‏,‏ والتجارة شطارة‏,‏ أحقا ذهب الاطباء الشرفاء إلي المقابر أم ما هي العبارة؟‏!‏

قرأت رسالة الطفلة هدي التي بعثت بها طبيبة فاضلة وتنقلت بين كلماتها كلمة بعد كلمة فانتابني حزن بعد حزن وانقبض صدري وشعرت بمرارة في حلقي عندما وقعت عيناي علي الجملة التي رد فيها الاطباء علي الأم أنه من الأفضل ألا تجري لها العملية وأن تموت بالمنزل‏,‏ بدلا من أن تموت أثناء العملية وقبلها بأيام سمعت في برنامج تليفزيوني شهير عن الرجل المسن المريض الذي سخر منه الاطباء وقالوا له اذهب يارجل ومت في بيتك لا فائدة من العلاج ولم يمدوا له أيديهم‏,‏ وعن آخر في الجريدة وافته المنية علي كرسي متحرك بمستشفي ما‏,‏ فما كان من أحد حراس الأمن إلا أن ألقي به علي قارعة الطريق ليفرغ الكرسي‏,‏ وعايشت أنا بنفسي أطباء بالمستشفي محل عملي يشخصون الحالات حسب أهوائهم عمدا لخدمة أغراضهم بغية إجراء العمليات فادحة التكاليف في عياداتهم الخاصة وغيرها وغيرها وغيرها من الحالات الشاذة والغريبة‏.‏

أهذا حقا يحدث في مصر أم أنني في بلد آخر؟ أم أن أرواح البشر أصبحت بلا ثمن أو قيمة؟‏!!‏

سيدي‏.‏ في لحظة فارقة في حياتي أكون فيها أنا المريض‏,‏ وأنصبك أنت طبيبا‏,‏ شخص دائي إن كان داء‏,‏ وصف لي الدواء‏.‏

أنا طبيب استشاري أمراض نساء وتوليد‏,‏ أبلغ من العمر ثلاثة وستين عاما‏,‏ مرت بي السنون بعد تخرجي في كلية الطب جامعة عين شمس مرورا روتينيا‏,‏ فيها تزوجت من زوجة صالحة أنجبت لي من البنين أربعة ومن البنات ثلاثا‏.‏ عشنا أياما كريمة شريفة‏,‏ لم أستغل فيها مهنتي يوما من الأيام‏,‏ لم أستغل مريضا ولم أرد معتلا‏.‏ تساهلت مع مرضي كثر‏,‏ أشعر بالفقير وأحاول مساعدته قدر المستطاع ولا آخذ من الغني أكثر من أجري‏,‏ ظللت اثني وعشرين عاما أتعامل مع المرضي بهذه الفلسفة الاخروية‏,‏ فأنا أعامل الله قبل كل شيء إلي أن حدث ما لم يكن في الحسبان‏.‏

في يوم عصيب عصيب لن أنساه اتصلت بي تلميذتي بالمستشفي بعد انتهاء فترة العمل الصباحية وانصراف الاطباء والعاملين تأخذ رأيي في إعطاء مريضة في المستشفي قرص سيتوتيك بغرض زيادة طلق الحمل‏,‏ عنفتها وحذرتها تحذيرا رادعا أن القرص يمثل خطرا داهما علي حياة الأم والجنين‏,‏ وهو أساسا يستخدم في علاج قرحة المعدة‏,‏ كما أن الأم لم تكن علي ولادة‏,‏ لكن يبدو أن الطبيبة ظنت أنني امازحها فعصيت أوامري ولم تنته بما نهيتها عنه فأعطتها القرص ووقعت الفاجعة‏.‏

أفزع صراخ وتأوه الأم الطبيبة فاستنجدت بي طالبة العون ولم أتأخر هرعت إلي مسرح الأحداث فوجدته بأسره داميا‏,‏ والاحداث فيه بلغت مبلغها‏,‏ الطبيبة وفي يدها مولود متوفي تندب حظها العثر وتبكي بحرقة‏,‏ ومدير المستشفي الذي كان هو نفسه طبيب التخدير يقف بلا حراك والممرضون والممرضات يتمتمون ويهمهمون وايضا يشاهدون لكن لم يحركوا ساكنا‏.‏

لم تكن النوبتجية نوبتجيتي برغم ذلك تدخلت كان لي أن أقول وأنا مالي وأتبع السياسة السائدة في كل مكان لاسيما في مستشفيات مصر وأترك الأم تواجه قدرها بنفسها‏,‏ ولا أخفيك سرا أن منظر الدماء وهي تتهاطل من رحم الأم كان جديرا بأن يخيف من لا يخاف‏,‏ لكني لم أفعل إلا ما اعتدت‏,‏ فمواقفي البطولية مشهودة ولا أحد يستطيع انكارها‏.‏

تدخلت بحسن نية وصفاء بالغين‏,‏ فأنا أعامل الله وفعلت ما بوسعي لإنقاذ روح بشرية بريئة‏.‏

لم أتمكن من الوصول إلي ذاك الشريان الفياض المسئول عن ضخ تلك الدماء الغزيزة‏,‏ ولم أجد بدا من إجراء عملية استئصال لرحم الأم كي يتوقف النزيف وتعيش‏,‏ وهذا ما حدث بالفعل بعد تدخل العناية الالهية‏.‏

فهل جزاء الاحسان إلا الإحسان؟ سؤال لا محل له من الإعراب هنا‏,‏ اتدري ماذا حدث بعد ذلك؟

سيدي‏,‏ حاولت انقاذ أسرة وروح بريئة وفعلت فهل تتخيل أن توجه لي كل التهم في تحقيقات الحادث وأصبح أنا المدان الوحيد؟ نعم تكاتف علي الجميع وعقدوا النية علي رد الجميل لي‏.‏ زوج المجني عليها أكد أنني أنقذت حياة زوجته دون أن آخذ موافقته‏,‏ والمجني عليها قالت إنني أنا هو من بدأ العملية وأنهاها‏,‏ والممرضات أكدن أنني تأخرت وجئت في نهاية العملية مما تسبب في تدهور الحالة تضاربات وتناقضات واضحة في أقوال الشهود‏,‏ لكن كلها أكدها المدير وأقر بصحتها وكنت آخر من علم بها‏.‏ اكتملت المهزلة بإتيان المدير بشاهد لم يكن من بين الحضور وأقر بأنني تأخرت‏.‏ ذاك الشاهد الزائف قال إنه هو من خدر الحالة وبالأوراق الرسمية تأكد مرافقته لحالة اسعافية وقت العملية‏,‏ كيف تمكن ذلك العظيم من تخدير حالة ومرافقة حالة إسعافية اخري في آن واحد؟‏!‏ وعجبي جرت الأم وحررت المحاضر التي آلت إلي قضية هي الاغرب في تاريخ القضاء المصري‏,‏ فيها أطلق العنان للجناة الحقيقيين وصار البطل فيها متهما‏.‏

رضيت ولم يكن لي غير الرضا تمر الأيام وأقول غدا يظهر الحق‏.‏ يساومني أهل المجني عليها علي دفع مبلغ طائل من المال ويقولون لي جهرا نحن نعلم أنك برئ لكن لابد من القضية‏,‏ من فريسة‏,‏ أنا أرفض دفع ثمن ذنب لم أقترفه‏.‏

مرت الأشهر وتوالت الجلسات في المحكمة الجزئية ثم الاستئناف‏,‏ عانيت معها ويلات المحامين والمشاوير والقضاة والأوراق‏,‏ بينما الجناة ينعمون غير آبهين بما يحدث لي من تعذيب وإرهاق جراء ما فعلوا‏.‏

حاولت أن أنفذ أسرة وحاولوا هم هدم أسرتي وتدمير مستقبل أولادي ناهيك عن الشائعات المغرضة والقيل والقال والأقاويل والأقوال‏.‏

مرت الأيام وتوقفت عجلتها عند يوم حاسم لم أشهد مثله منذ زمن مضي‏,‏ يوم فيه تخلي عني القريب قبل الغريب‏,‏ والصديق قبل العدو‏,‏ وما زاد علي ذلك أن المحامي الموكل‏,‏ علي الله توكل‏,‏ وتركني وحيدا في جلسة النطق بالحكم الجلسة النهائية ويالكرمه أشفق علي حالي فأناب عنه ثلاثة جهابذة لايعرفون شيئا عن القضية‏.‏ لم يقف لي سوي عملي الصالح وحب الناس ودعائهم لي‏,‏ فحفظت القضية للحكم‏.‏

تقربت إلي الله وأنبته في الدفاع عني وقدمت الأوراق والمستندات التي تثبت براءتي إلي أن جاء يوم النطق بالحكم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وحدثت المعجزة وحكم لي بالبراءة‏.‏

بقي أن تعرف أن الله اسمه المنتقم الجبار‏,‏ فمنذ أيام قلائل أوقف المدير عن العمل لاختلاسه مبالغ طائلة من أموال المستشفي‏,‏ أما الطبيبة التي ورطتني فبترت أصابع يدها في حادث سيارة مروع وأمد الله لها في العمر ليريها ما رأيت من عذاب وليس ذلك علي الله بعزيز‏.‏

سيدي‏,‏ رد الي شيئا من كرامتي التي جرحت وكبريائي التي طعنت‏,‏ اقتص لي ممن ظلمني وإسمح لي من خلال بابكم المشع أن أناشد أولادي الاطباء في شتي مستشفيات مصر في شرقها وغربها شمالها وجنوبها‏:‏ أوقفوا تنفيذ عبارة وأنا مالي إحترموا الروح الإنسانية وقدروها‏,‏ ازرعوا الأمل في قلوب المرضي ولا تنزعوه أبدا‏,‏ ساعدوا فقراءهم ومدوا أيديكم لهم‏,‏ لا تتأخروا عن إنقاذ إنسان وتذكروا قراء هذه الصفحة الغالية‏,‏ أنه كان هناك في يوم من الأيام ابن بار من ابناء مصر‏,‏ تدخل وأنقذ روحا إنسانية بريئة‏,‏ فأهين وجرح وذاق الأمرين وكافأه الله في النهاية وبرأه مما صارت تهمة في زمننا هذا‏,‏ اسمها إنقاذ مع سبق الإصرار والترصد‏.‏
دكتور‏/‏ علي محمد
طبيب استشاري أمراض نساء وتوليد
بالمعاش‏.‏

*‏ سيدي‏..‏ ها أنا أنشر رسالتك‏,‏ لعل هذا يعيد اليك اعتبارك وثقتك فيمن حولك‏,‏ ويؤكد لك أن في مصر نماذج أخري كثيرة من الاطباء‏,‏ مثلك‏,‏ يؤدون رسالتهم بشرف فالنماذج السيئة هي التي تجذب بعض الصحف‏,‏ ونغفل كثيرا عن وجوه مضيئة‏,‏ تمنح وتعطي وتضحي ابتغاء مرضاة الله‏,‏ وأنتهزها فرصة لتصحيح بعض ما نشر في الصحف واستندت اليه‏,‏ لإزالة بعض البقع السوداء التي أنتشرت في أيامنا هذه‏,‏ فلم يثبت أن الممرض ألقي ميتا من علي كرسي ليتخلص منه‏,‏ وهذه‏,‏ حكاية بعيدة عن المنطق والإنسانية‏,‏ نعم تحدث اشياء أكثر فجاجة وقسوة‏,‏ ولكن لا أتخيل أبدا أن إنسانا يلقي ميتا هكذا‏,‏ قد يفعلها مع حي بقلب ميت‏.‏

أما واقعة الطفلة هدي فقد تأخرت في توضيح لابد منه ـ بسبب ظروف المساحة ـ أساءت رسالة الطبيبة التي وصلتني ولم أعرفها حتي الآن الي مستشفي أبوالريش للأطفال‏,‏ وأسأت أنا الآخر بتأخري في نشر الحقيقة فقد زارني مجموعة من طبيبات واطباء مستشفي أبوالريش بأوراقهم الرسمية ومستنداتهم‏,‏ وتأكدت أن هدي كانت علي قوائم الانتظار‏,‏ وأنهم لم يتوانوا أو يتهاونوا في علاجها‏,‏ بل أسعدني هذا الفيض الإنساني لطبيبات هذا المستشفي‏,‏ طبيبات مثل الورود‏,‏ يقضين حياتهن بين المرضي‏,‏ يدفعن من جيوبهن‏,‏ يزرن أهالي المرضي في بيوتهن ويعاونهن أطباء وهبوا حياتهم للتخفيف عن المرضي الصغار‏.‏

هذا يا سيدي وجه آخر لما عانيته‏,‏ أقدر كثيرا إحساسك بالظلم ولكن ما يمنحنا الثقة‏,‏ أن عدالة الله أعلي من ظلم كل البشر‏,‏ وها أنت بنفسك ترصد لنا انتقام الجبار ممن ظلموك وافتروا عليك ـ عفا الله عنهم وهداهم ـ فهل هناك رسالة لأبنائك الاطباء أسمي من رسالة الخالق سبحانه وتعالي‏.‏

أعانك الله علي التخلص من أي إحساس بالمرارة‏,‏ وأشكرك علي المعاني والقيم الطيبة التي جاءت في رسالتك‏.‏ وإلي لقاء بإذن الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق